|
Getting your Trinity Audio player ready...
|
كانت غزة في تلك الليلة تغفو على جراحها، لكن قلبها ظل يقظًا، يسبّح بحمد الله، ويُعلّم الدنيا أن الألم يمكن أن يكون معراجًا. وبينما كانت أصوات المدافع ترتجف في الأفق، فتحت الأرض صفحةً أخرى من التاريخ، وأذنت بحوار لم يكتبه أحد من قبل، حوار بين غزة ومدينة مجدٍ عريق، مدينة حملت في ماضيها لواء الربانية والقيادة العادلة، ثم صارت رمزًا خالدًا لا يُمحى من ذاكرة الأمة. لم تكن المدينة اسمًا بقدر ما كانت معنى: قد تكون القدس بقدسيتها، أو إسطنبول بعظمتها، أو قرطبة بحضارتها… لكنها في تلك اللحظة لم تحتج إلى اسم، لأنها كانت تمثل روح القيادة الربانية في التاريخ.
المدينة العريقة:
يا غزة، يا جرح الأمة وضياءها، ما أشبهك بي حين كنتُ في أوجي، كنتُ أحمل راية التوحيد، وأُقيم العدل، وأُعلّم الناس أن الحاكم عبد لله قبل أن يكون سيدًا على الناس. كان المسجد مدرستي، والعدل شريعتي، والربانية طريقي.
غزة (بصوت مبحوح لكنه مفعم باليقين):
وأنا يا أختي، ما زلتُ أتعلم الدرس نفسه. لم يترك لي الزمن قصورًا ولا مدارس عريقة، لكنني وجدتُ في خيمةٍ مهترئة جامعةً، وفي دعاء أمّ شهيد دستورًا، وفي صبر طفل جائع معراجًا. أنا اليوم أحمل رسالتك ذاتها، ولكن على أكتافي جراح وأشلاء، أرفع بها المعنى من جديد.
المدينة العريقة:
لقد كنتُ يومًا شاهدة على أن القيادة لا تُبنى بالقوة وحدها، بل بالعدل والإيمان. كان صلاح الدين يقول: “لن يُهزم قومٌ يُصلون الفجر في جماعة.” وقد شهدتُ أمتي آنذاك كيف ينهض الرجال من السجود إلى ميادين الجهاد. واليوم أراكِ تعيدين المشهد ذاته، كأنك تكتبين فصلًا جديدًا من ملحمة قديمة.
غزة:
صحيح. عندي من الأطفال من يحفظون القرآن على أضواء الشموع، ومن الأمهات من يودعن أبناءهن بالزغاريد، ومن الرجال من يبيعون حياتهم في سبيل الله. ليس عندي خزائن ذهب ولا عروش، لكن عندي يقين أن النصر وعد الله.
قال المسيري: “إن المعركة الحقيقية ليست معركة سلاح، بل معركة رؤية ومعنى.”
وغزة اليوم هي رؤية الأمة ومعناها، لأنها تقاتل بالسلاح قليلًا، ولكنها تقاتل بالمعنى كثيرًا. وقال العقاد: “القيادة الحقّة هي أن تملك روحًا أكبر من الألم.” وغزة تملك روحًا أكبر من جراحها، فتُحوّل الدماء إلى أغنيات، والدموع إلى صلوات.
المدينة العريقة:
يا غزة، في زماني سقطتُ مرارًا، لكنني كنتُ أنهض دومًا بفضل رجال عرفوا أن الربانية هي أصل النهضة. لم يكن النصر عسكريًا فقط، بل كان روحيًا؛ كان يخرج من قلبٍ يتهجد ليلًا، قبل أن يحمل السيف نهارًا.
غزة:
وأنا اليوم أكرر التجربة ذاتها. كل طفل عندي هو مشروع قائد، كل دمعة هي بذرة أمل، وكل جدار منهدم هو بداية لعمران جديد. قد يظن العالم أنني أحتضر، لكن الحقيقة أنني أُنجب أمةً جديدة.
المدينة العريقة:
إنك تكتبين وصية الربانية للأمة: أن القيادة ليست ترفًا ولا منصبًا، بل دموعٌ في جوف الليل، وعرقٌ في ميدان الحق، وصبرٌ على البلاء.
تذكرت الأرض حينها قول ابن خلدون: “إذا استُعبد الناس بالشهوات فسدت القيادة، وإذا تحرروا بالمعنى قامت الحضارة.” وغزة اليوم تحرر المعنى من تحت الركام، لتعيد بناء حضارة جديدة لا بالأبراج، بل بالثبات واليقين.
غزة (بصوت يمزج الوجع بالرجاء):
يا أختي العريقة، ربما لا أملك الآن ملامح الحضارة التي كانت لك، لكنني أملك البذرة. أنتِ كنتِ ثمرة الماضي، وأنا بذرة المستقبل. فإن سُقيت بدماء الشهداء، وأُنيرت بدموع الأمهات، فستُثمر حضارة أعظم من حضارتك، لأنني تعلمتُ من كل سقوطك ألا أكرر الأخطاء.
المدينة العريقة:
وأنا، يا غزة، أُسلّمك الأمانة. أنقذي الأمة من غفلتها، أعيديها إلى المعنى، ذكّريها أن القيادة الربانية ليست في القصور، بل في الخنادق، وليست في المنابر وحدها، بل في السجود والدماء الطاهرة.
وفي تلك اللحظة، عمّ صمت كوني، كأن الملائكة أنفسهم كانوا يُنصتون. غزة والمدينة العريقة لم تعودا مدينتين، بل أصبحتا رمزين خالدين:
• غزة = القيادة الربانية الحاضرة، التي تولد من الجراح.
• المدينة العريقة = القيادة الربانية الماضية، التي صنعت المجد.
وكانت الرسالة واضحة: القيادة الربانية لا تموت، بل تتنقل من زمن إلى زمن، من مدينة إلى مدينة، من حضارة إلى أخرى.
وختامًا: لقد سجّل هذا الحوار الذي لم يشهده التاريخ أن غزة ليست مجرد جغرافيا، بل هي الامتداد الحيّ لروح المدن العريقة التي صنعت المجد يومًا. وأن الربانية – التي جمعت بين الماضي والحاضر – هي الطريق الأوحد لمستقبلٍ لا يخضع للترف ولا ينهزم أمام القوة. غزة اليوم تكتب، بدمائها وصبرها، الصفحة التالية من كتاب الحضارة. ومن أراد أن يعرف معنى القيادة الربانية، فلينصت لصوتها: جرحٌ يتحدث بلغة السماء، وأمة تتنفس من ركامها حياة جديدة.