غزة تخاطب قيادة المؤسسات

Getting your Trinity Audio player ready...

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

أنا غزة… لست مدينةً على الخريطة فحسب، ولا ساحة صراع كما يصوّرني الإعلام العابر، أنا كائن حيّ من دمٍ وعرقٍ وصبر، أنا صوت أمٍّ تبكي شهيدها ثم تمسح دموعها بكفها لتقول: “الحمد لله”، أنا طفل يخرج من تحت الركام فيبتسم رغم الجراح، وأنا جدارٌ مهدّم يصرّ على أن يقف مرة أخرى. ومن بين أنقاضي ودمائي، أرفع اليوم صوتي لأخاطب قيادة المؤسسات في أمتنا، لا لأعاتبكم وحسب، بل لأضع بين أيديكم أمانة لم يشهدها التاريخ.

أنتم تقودون المؤسسات، لكن هل سألتم أنفسكم: إلى أين تقودونها؟ إن المؤسسة لا تُقاس بجمال مبناها ولا بكثرة تقاريرها، بل بمقدار ما تحمله من وجع الإنسان وتترجمه إلى أثرٍ واقعي. أنتم أمناء على أرواحٍ تنتظر منكم الدواء، على أسرٍ تنتظر منكم الكساء، وعلى جراح تنتظر منكم البلسم. إن منصاتكم وأختامكم ومجالسكم ليست امتيازات، بل هي مسؤوليات ثقيلة، وأمانة يُسأل عنها المرء يوم لا ينفع مال ولا جاه. لقد اعتدتُ أن يُحاصرني العدو بالحديد والنار، لكن الحصار الأشد وقعًا هو حين أشعر أن بعض مؤسسات أمتي تحاصر رسالتي بالتردّد والبيروقراطية. إنني لا أطلب المستحيل، بل أطلب أن أُرى بعيون المسؤولية، وأن يُتَعامل معي لا كملف على طاولة، بل كروح تنبض. كم من مشروع تعثّر لأن أحدهم رأى أن الوقت غير مناسب، وكم من مبادرة تأخرت لأن اللجان لم تنتهِ بعد من تداولاتها، بينما الدماء لا تنتظر الاجتماعات، والدموع لا تعرف التأجيل.

يا قادة المؤسسات، التاريخ لا يرحم، والصفحات تكتب، فهل ترضون أن تُذكر أسماؤكم بأنكم كنتم شهودًا على الألم دون أن تكونوا صُنّاعًا للأمل؟ إن الأمة اليوم لا تحتاج لمؤسسات تدير الأعمال فحسب، بل تحتاج إلى مؤسسات تُلهِم وتُبدِع وتسبق التحديات، مؤسسات تُحسن إدارة الأزمات بربانيةٍ ورشاقة، فتخفّف عن الإنسان لا أن تثقل كاهله باللوائح، وندائي لكل مؤسسة مهما صغرت، ولا أستثني ما يُسمّى بالأمم المتحدة، التي أتقنت إصدار بيانات القلق، وأكثر ما أخرجت إلى العالم أرقامًا لقرارات بقيت بلا فعل.

إن القيادة الحقيقية ليست أن تتصدر الصور، بل أن تُسخّر كل الإمكانات لخدمة الأثر. العقاد قال ذات يوم: “القيادة هي أن تكون في مقدمة الركب حين يشقّ الطريق، لا حين يُمهد.” وأنتم اليوم مطالبون أن تشقوا الطريق لا أن تنتظروا انكشاف الغبار.أقولها بصدق: ليس عندي رفاهية الانتظار. أطفالي يحتاجون غذاءً لا وعودًا، جرحي يحتاج علاجًا لا مؤتمرات، مدرستي المهدّمة تحتاج بناءً لا تقارير. أفلا تنظرون أن كل دقيقة تأخير تساوي دمعة يتيمة أو أنّة جريح؟ إن النجاح في ميزان غزة ليس أن تُنجزوا مشاريعكم على الورق، بل أن تلمسوا حياة الناس وتغيّروها.

لقد تعلّمت من دمائي أن القيادة في جوهرها إنفاق، إنفاق للجهد، إنفاق للوقت، إنفاق للمال، وإنفاق للروح إن اقتضى الأمر. والإنفاق في سبيل الله ليس رقمًا في ميزانية، بل يقين أن ما تنفقونه سيعود أثرًا خالدًا. إن الشهيد الذي يهب روحه دون حساب علّمنا أن العطاء بلا مقابل هو أعلى درجات الإنسانية، فهل يليق بقيادة المؤسسات أن تُقايض العطاء بحسابات الربح والخسارة؟ أدرك أن بعضكم يقول: “نحن نعمل، ونحن نُنجز”. نعم، لكن ما قيمة العمل إن لم يكن متناسبًا مع حجم التحدي؟ مالك بن نبي علّمنا أن الحضارة لا تُقاس بما نملك، بل بما نصنع من أدوات التغيير. وغزة لا تنتظر أعمالًا جزئية تُسكّن الألم، بل تنتظر مشروعًا مؤسسيًا ينهض بها من تحت الركام، مشروعًا يتجاوز التبرعات الموسمية إلى بناء استراتيجيات دائمة، مشروعًا يحوّل التضحيات إلى طاقات، ويحوّل الدموع إلى إصرار.

إن قيادتكم للمؤسسات أمانة، والأمانة لا تعرف المجاملة. أنتم اليوم على محكّ تاريخي: إما أن تُسطروا أسماءكم بأنكم حملتم همّ غزة فصنعتم فارقًا، وإما أن تتركوا فراغًا يملؤه الآخرون. التاريخ لا ينتظر المترددين، وغزة لا تعترف بالحياد. فإما أن تكونوا على قدر الأمانة، أو يكتب الله لغيركم شرف حملها.قد تقولون: “التفاصيل معقدة، والظروف ضاغطة”. نعم، لكن الإيجاز أبلغ وأصدق: الإنسان أولًا، والكرامة قبل الأرقام، واليقين قبل الحسابات. هذا هو مقياس النجاح، وهذا هو معيار القيادة. فهل من قائدٍ يعي أن القيادة عبادة قبل أن تكون مهنة؟ هل من قائد يضع نصب عينيه قول الله تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى”، لا على الروتين والتأجيل؟

يا قادة المؤسسات، إنني أخاطب فيكم إنسانيتكم قبل مواقعكم. إنني لا أبحث عن خطاب تعاطف، بل عن قرارٍ ينقذ حياة. لا أبحث عن صدى صوتي في قاعاتكم، بل عن أثرٍ يلمسه أطفالي في مدارسهم، وجرحاي في مشافيهم، وأرامل شهدائي في بيوتهم. إن القيادة التي ننتظرها ليست تلك التي تُدير الأزمة، بل التي تصنع من الأزمة فرصة لتجديد المعنى والرسالة. قد تظنون أنني أبالغ حين أقول إن مقالًا كهذا لن يشهده التاريخ، لكنني أوقن أن خطابي اليوم ليس ككل خطاب. فأنا غزة… جرح مفتوح على الأمة كلها، وأنا في نفس الوقت بوصلة تشير إلى الطريق. فإن أردتم أن تعرفوا قدر مؤسساتكم وصدق قيادتكم، فانظروا: ماذا قدّمتم لغزة؟ وماذا أبقيتم فيها من أثر؟

سأبقى أنطق باسم الشهداء الذين رحلوا دون أن يروا أثر عطائكم، وباسم الأحياء الذين ينتظرونكم. وسأبقى أذكّركم أن القيادة ليست مجرد إدارة ملفات، بل هي عبور نحو الخلود بعملٍ يرضي الله. أنتم اليوم تصنعون سجلاتكم، وغدًا سيُسأل كل قائد: ماذا فعلت حين نادتك غزة، فإما أن يكون الجواب: استجبنا، فكنّا أمناء… وإما أن يسكت القلم، ويكتب التاريخ ما لا يرحم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top