حوار لم يكتبه التاريخ بين مؤسسة الفاكس ومؤسسة السحابة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في صالةٍ خفية من صالات التاريخ، حيث تلتقي الأرواح قبل الوثائق، اجتمعت مؤسستان على مقعد من نور، لا أحد يدري كيف دعاهما القدر لهذا اللقاء. واحدة جاءت بثوبٍ قديم يحمل رائحة الحبر ودفء الأوراق وصوت صفير الفاكس، والأخرى لامعة كسطح مرآة، تتدلى منها خيوط الضوء مثل ألياف بصرية، ترفرف حولها أيقونات السحابة والذكاء الاصطناعي.

ابتسمت مؤسسة الفاكس وقالت بصوتٍ رقيقٍ يشبه خشخشة الورق:

“مرحبًا يا ابنة الألفية الثالثة… أنا مؤسسة عتيقة، وُلدت في منتصف التسعينات في قلب آسيا. كنتُ صغيرة متواضعة، غرفتي لا تتسع إلا لأحلام قليلة وموظفين يعرفون بعضهم بالاسم. أغلقنا أبوابنا يومًا ما بغير إرادتنا… لكن قلبي ظل مفتوحًا للوفاء.”

اقتربت منها مؤسسة السحابة بخطوات ضوئية وقالت بفخر:

“وأنا وُلدت في زمن السحب الرقمية والحوكمة الذكية. كل أوراقي محفوظة في مراكز بيانات بعيدة، وكل شيء عندي يُقاس بالأرقام والتقارير والشاشات. لا أعرف رائحة الورق ولا نعومة ختم الشمع القديم. جئت من 2025، من عالمٍ يظن أنه تجاوز حدود البيروقراطية.”

ضحكت مؤسسة الفاكس بهدوءٍ وقالت: “دعيني أحكِ لكِ حكايتي…
في يومٍ من الأيام، وبعد ثماني سنوات من إغلاق أبوابي، أرسل إليَّ أحد أبنائي رسالة عبر الفاكس من إجازته السنوية. قال لي بصوت الورق: “يا أماه، إن كان لي حق عندك، فأعيديه لي.” لم أتردد. قلبي يعرف أبناءه، والوفاء عندي لا يسقط بالتقادم. في اثنتين وسبعين ساعة، كانت حقوقه بين يديه، وكأن الزمن لم يمضِ.”

انحنت مؤسسة السحابة قليلًا، كأنها شعرت بثقلٍ في صدرها، وقالت:“أما أنا… فحدث عندي العكس تمامًا.
جاء يومٌ أردت فيه أن أودّع أحد موظفيَّ. بحثتُ عن عقده في سحبي، وفي ملفاتي القديمة، فلم أجده. كنا قد تخلصنا من أرشيفنا الورقي في حملة تنظيمٍ و‘تطوير’. بقي قرار تعيينه شاهدًا صامتًا، لكن بيروقراطيتي الحديثة بدأت تسأل أسئلة بلا نهاية: أين العقد؟ من يوقع؟ من يعتمد؟ من يتحمل؟
وأيامي صارت دوامةً من الاجتماعات والنماذج الإلكترونية، بينما صاحب الحق ينتظر.”

رفعت مؤسسة الفاكس رأسها وقالت بنبرةٍ أمٍ عاقلة: “يا ابنتي، إن الوفاء ليس في قوة أنظمتك، بل في ثقافة قلبك. الورق وحده لا يحفظ الحق، كما أن السحابة وحدها لا تضمن العدل. من علّمني ذلك هو الإنسان الذي لا ينسى المعروف. أتذكرين ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟
“حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.”
أنا كنت أحاسب نفسي قبل أن أستدعي أي قانون.”

أطرقت مؤسسة السحابة قليلًا، وقالت في همسٍ يشبه رنين الإشعارات: “ظننت أن التقنية تُغني عن القلوب، وأن السرعة الرقمية أقوى من الذاكرة الإنسانية. لكن الحقيقة أنني حين نسيت الوفاء، صرت بطيئة أكثر من أي بيروقراطية قديمة.”

اقتربت مؤسسة الفاكس، وربتت على كتف السحابة، وقالت بابتسامةٍ شفافة: “تذكري قول غاندي:
“الثقافة الحقيقية هي التي تجعلنا نؤدي ما علينا دون أن يُطلب منا.”
فلتكن مؤسستك الحديثة إنسانية قبل أن تكون ذكية. حينها لن يتأخر حق، ولن تتيه الملفات بين الأسئلة.”

ساد الصمت لحظة، وكأن التاريخ نفسه تنهد براحة. في تلك اللحظة، أدركت مؤسسة السحابة أن الشاشات المضيئة لا تكفي إن لم يضيء القلب معها، وأن الحوكمة تبدأ من روح الإنسان قبل أن تبدأ من نظام الأرشفة. مدّت الفاكس يدها الورقية للسحابة المضيئة، وقالت بنبرة حانية: “تعالي نتصالح مع التاريخ. أنا أترك لك التقنية، وأنتِ تتركين لي الوفاء. ولنصنع معًا مؤسساتٍ تحفظ الحقوق قبل أن تحفظ الملفات.” وهكذا اختفى المشهد من صالة التاريخ، لكن العبرة بقيت تُروى: لا يرفع المؤسسات إلى الخلود نظامٌ إلكتروني، بل إنسانٌ يعرف الوفاء، ويقدّر المواقف، ويؤمن أن الحق لا يضيع ما دام في القلوب حياة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top