حين يتسع القلب للصحبة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في مواسم الروح، تأتي الجمعة محمّلةً بما لا تحمله سائر الأيام. فبعد الصلاة، تنفتح الأبواب لصحبة درجت على اللقاء، يجمعهم دفء المودة أكثر مما تجمعهم المواعيد، وتشدهم المحبة أكثر مما تشدهم الأطباق. لقد صار ذلك الموعد الأسبوعي فسحة من العمر، يتجدد فيها العهد، ويُغسل فيها غبار الأيام بكلمة صادقة أو نظرة ودودة

لكن الأصدقاء، وهم الأعرف بما وراء المواعيد، كانوا يتبادلون همسًا بينهم: إن زوجة صاحبنا في القطر هذه الأيام. لم يكن الحديث مجرد خبر عابر، بل كان اعترافًا خفيًا بأن الصحبة، مهما سمت، لا ينبغي أن تتحول إلى عبء، ولا أن تأخذ من بيته ما قد يحتاج إليه. قالوا ذلك بحياء، ثم ارتأوا أن يؤجلوا الموعد أو يجعلوه مرنًا، لا تأكيد فيه ولا إلزام، وكأنهم يعلنون أن الصداقة التي تثقل ليست صداقة، وأن الوفاء قد يكون في الامتناع كما قد يكون في الحضور. وما لم يقله الأصدقاء صراحة، قالته الزوجة بإيماءة من قلبها: “امضِ إليهم، فلقاؤك بهم يضيف إلى سعادتي قبل سعادتك.” لم تكن الكلمات حاضرة، بل كانت الروح هي الناطقة. إيثار صامت لكنه أبلغ من الكلام، يضع اللقاء في ميزان الحكمة، ويرى أن بعض الصحبة غذاء للروح لا ينبغي التفريط فيه.

وبعد الصلاة، انطلقت الخطى دون ترتيب أو اتصال. يعرف الطريق من اعتاده، ويعرف الباب طارقَه. وحين فُتح الباب، كان الغداء قد انتهى، والمائدة قد طُويت. لكن الذي لم يطوَ هو الودّ. فالعناق الذي استقبله كان أدفأ من أي طعام، والابتسامات التي علت الوجوه أغنت عن كل صحن. هنا أدرك أن اللقاء ليس في الأطباق، بل في الأعين التي تلمع بالحب، وفي الأرواح التي تتسع لبعضها بعضًا. جلس بينهم، والدهشة تعانق البهجة، كأن المشهد خُلق ليؤكد أن الصحبة الحقيقية لا يحددها توقيت. وحين شعر أحد الأصدقاء بلطافة الموقف، قام بمبادرة خاطفة، أعد ما تيسّر من غداء على عجل، وكأنما يضع لمسة حانية على لوحة اللقاء. لم يكن الغداء في ذاته هو الغاية، بل المبادرة هي الرسالة: أن الصداقة ليست انتظارًا، بل فعل محبة، سريعًا وبسيطًا لكنه يزن أثقالًا من الوفاء.

في تلك اللحظة، بدت الحكمة القديمة جلية: “خير الأصحاب من إذا احتجت إليه وجدته، وإن لم تدعه لبّاك.” لم يكن القادم قد طلب شيئًا، لكن المبادرة سبقت السؤال، وأثبتت أن الصداقة أفعال قبل أن تكون أقوالًا. ومع امتداد الحديث، طغت الحكايات على كل شيء. الضحكات المتناثرة ملأت المكان بأكثر مما تملؤه الأطباق. وكأن المجلس صار صورة حيّة من قول الفاروق عمر رضي الله عنه: “عليك بإخوان الصدق، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء.” لقد كانت تلك الصحبة زينة في لحظة رخاء، وعدة في لحظة مودة، لا بلاء فيها إلا بلاء الغياب الذي عوّضه اللقاء.

أما الزوجة، التي بدت بعيدة حاضرة، فقد جسّدت معنى نادرًا من معاني الإيثار. لم ترَ في اجتماعهم انتقاصًا من وجودها، بل رأته إضافة لفرحهما معًا. إن هذا النوع من الفهم لا يأتي إلا من قلب رحيم يدرك أن المحبة الحقيقية ليست امتلاكًا، بل إطلاقًا. كما قال جبران: “دعوا الحب يكون كالبحر بين شواطئ نفوسكم.” وهنا كان البحر واسعًا بما يكفي ليحتوي البيت والأصدقاء معًا. لقد كانت تلك الجمعة أكثر من يوم، كانت درسًا في أن المواعيد لا تساوي شيئًا أمام الأرواح التي تتلاقى، وأن الموائد ليست أساس اللقاء بقدر ما هو أساسه النظر في العيون التي تعرفك كما أنت. وأن الصداقة ليست طقوسًا متكررة، بل هي مساحة أمان يتخفف فيها الإنسان من أثقاله، ويستعيد بها معنى أن يكون بين من يحب.

وإذا كان سقراط قد قال: “الصداقة روح واحدة في جسدين.” فإن تلك الجلسة أثبتت أن الروح الواحدة يمكن أن تسكن في أكثر من جسد، وأن المائدة التي تجمع الأصدقاء لا تُرفع أبدًا، حتى وإن طُويت الصحون.
حين خرج الصديق بعد الجلسة، لم يحمل في يده شيئًا، لكن قلبه كان ممتلئًا. حمل في داخله يقينًا أن بعض اللحظات تُكتب بمداد لا يمحوه الزمن، وأن بعض اللقاءات تُعاش مرة واحدة لكنها تبقى عمرًا بأكمله. لقد خرج بخطى هادئة، وفي داخله دعاء أن تظل هذه الوجوه مشرقة، وهذه الأرواح متصلة، وأن تبقى المودة أقوى من كل غياب.فما أجمل أن يتعلم الإنسان أن الوفاء ليس في كثرة اللقاءات، بل في صدقها. وأن المائدة الحقيقية هي التي تُفرش في القلب، لا التي توضع على الطاولات. وأن الصحبة إذا صفت، فإنها تخلّد في الذاكرة كما تخلّد الآثار في الحجر.

وفي الختام، نسأل الله أن يجعل لقاءاتنا عامرة بالمحبة، مطهّرة من الرياء، موصولة بالبركة، وأن يديم بيننا هذه الصحبة التي لا يعرف ثقلها الزمن، ولا تنقطع بخجل أو غياب، وأن يجمعنا على الخير في الدنيا، وفي دار كرامته في الآخرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top