| 
                          Getting your Trinity Audio player ready...
                       | 

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في صباحٍ بدا غريبًا، توقّفت عجلة العمل الإنساني فجأة. جُمّدت المشاريع، وأُغلقت المكاتب، وتحوّل الضجيج المعتاد إلى صمتٍ ثقيل. لم تكن المشكلة في القرار ذاته، بل في السؤال الذي تبع القرار: ماذا سنفعل نحن حين تُطفأ الأنوار؟
مرت الشهور الأربعة وكأنها فصل طويل من اختبار الصبر والإرادة. المؤسسات سارعت إلى إجراءاتها الأولى: تقليص الموارد البشرية، تخفيض التكاليف، وإعادة ترتيب الموازنات. لكن ما غاب وسط كل ذلك أن الموارد الحقيقية لم تكن الأرقام ولا العقود، بل كانت العقول والقلوب التي جلست تنتظر.
زمن يتآكل أو زمن يُبنى
الوقت حين يُجمّد العمل يصبح أثمن من الذهب. فإما أن يتحوّل إلى مدرسة للوعي، أو إلى فراغ قاتل. لكن الذي جرى في كثير من المؤسسات كان أقرب إلى المشهد الثاني: جلسات عابرة، لقاءات شكلية، مجموعات صغيرة تتبادل أحاديث بلا نهاية. بدا وكأن الزمن قد توقّف بالفعل. غير أن الحقيقة أن الزمن لا يعرف التوقف. إنه يسير مثل نهر صامت، من يملأ دلاءه حصد ماء الحياة، ومن تركه يجري خسر ما لا يُعوّض.قال الإمام الشافعي: “الوقت سيف، إن لم تقطعه قطعك”.
وفي تلك الأشهر، بدا السيف حادًا أكثر من أي وقت، يقطع الحماسة، يقطع الإرادة، ويهدد بأن يقطع معنى الرسالة ذاتها.
حين يذوب الإنسان في الانتظار
المؤسسات ركّزت على إدارة الأزمة من جانبها المالي والإداري. لكن الإنسان، الذي هو جوهر العمل الإنساني، تُرك في فراغ. لم تُسأل الأسئلة البسيطة: كيف نُبقي شغف العاملين حيًا؟ كيف نحوّل هذه الأشهر إلى فضاء للتأهيل، للمعرفة، للتجديد؟ بدلًا من ذلك، ذاب كثيرون في دوامة الانتظار. جلسات حوارية بلا مسار، لقاءات تنتهي حيث بدأت، وقت ينساب مثل الرمل من بين الأصابع. والنتيجة: ضياع فرصة كانت أثمن من أي مشروع قائم.
الفرص التي لم تُستثمر
إن استثمرت المؤسسات هذا التوقف، لكان المشهد مختلفًا. كان يمكن أن تتحول الشهور الأربعة إلى منصة تدريبية، ترفع كفاءة العاملين في مجالات الإدارة والقيادة، تفتح لهم أبواب البحث والدراسة، وتُعيد وصلهم بالقيم الإنسانية التي جاءوا من أجلها. كان يمكن أن تُعقد حلقات نقاشية عن التجارب السابقة: ما الذي نجح؟ ما الذي أخفق؟ وما الدروس التي يمكن أن تُبنى عليها الاستراتيجيات القادمة؟
بل كان يمكن أن يكون التوقف نفسه فرصة لتجديد الروح: جلسات إيمانية، حلقات تأمل، مساحات لإعادة بناء الداخل قبل الخارج.لكن الذي ضاع لم يكن مجرد وقت، بل ضاعت فرصة لإعادة صياغة معنى الإنسان داخل المؤسسة.
أصوات العظماء ترشدنا، يقول وليام جيمس: “أعظم استخدام للحياة أن تقضيها في شيء يبقى بعد موتك”. فكيف ضاعت شهور كاملة في أحاديث لا تبقى ساعة بعد انقضائها؟
ويقول ابن القيم: “الوقت هو الحياة، وإضاعته إضاعة الحياة”. فإذا كانت الحياة الإنسانية أثمن ما نملك، فإن هدر الأشهر هو إعدام خفي لجذوة الحياة داخلنا. ويقول نيلسون مانديلا: “قد لا تكون البداية بيدك، لكنك تستطيع أن تصنع النهاية”. صحيح أن قرار التجميد لم يكن بأيدينا، لكن استثمار الأشهر التالية كان بوسع كل مؤسسة، بل كل فرد.
• أما جبران خليل جبران فقال: “الذين هم في أعماق الألم، وحدهم يدركون عظمة الفرح”. ولعل الشهور الأربعة لو استُثمرت، لأصبحت ألمًا يحوّل إلى درس، لا مجرد انتظار مرير.
القارئ شريك التجربة
أيها القارئ، هذه ليست حكاية مؤسسات بعيدة. إنها مرآتك أنت. كم مرة توقفت مشاريعك؟ كم مرة تعطلت خططك؟ وكم مرة اخترت أن تملأ التوقف بالثرثرة والانتظار بدل أن تحوّله إلى انطلاقة؟ الفرق بين إنسان وآخر ليس في القرارات التي يواجهها، بل في كيفية استثماره للزمن حين تُغلق الأبواب.قال الإمام علي رضي الله عنه: “قيمة كل امرئ ما يحسن”. والوقت المتوقف يكشف بصدق: ماذا نحسن نحن؟ هل نحسن البناء في السكون، أم نُتقن فقط الحركة حين يُفتح الطريق؟
السياسة، الحياة، الروح
- السياسة: التجميد كان درسًا في أن القرار قد يوقف المشاريع، لكنه لا يوقف إرادة البناء إن وُجدت.
- الحياة: أن الزمن لا يتجمّد، وأن كل دقيقة تمر هي إمّا رصيد يُضاف أو خسارة تُكتب.
- الروح: أن العمل الإنساني ليس مكتبًا ولا عقدًا، بل هو ضمير حي، إن تُرك في الفراغ ذبل، وإن غذّي بالإيمان والمعرفة نما وأثمر.
حين عاد العمل
حين عاد العمل الإنساني إلى مساره الطبيعي، اكتشفت بعض المؤسسات أن خسارتها لم تكن في الأموال ولا في المشاريع المؤجلة، بل في العاملين الذين فقدوا حماستهم. الفراغ أكل من الروح ما لم تأكله الأزمات الميدانية. وهنا تتجلى الحقيقة الكبرى: ليس الخطر في تجميد العمل، بل في تجميد الإنسان.
نداء للأمة والمؤسسات
أيها القارئ، أيها القادة، أيها العاملون: الوقت لا يُعطى مرتين. والفراغ ليس إجازة، بل اختبار. ومن لا يحسن إدارته، يُحسن الفراغ إدارته فيه. ليكن شعار المؤسسات في كل توقف: كيف نخرج من هذه المرحلة ونحن أعمق وعيًا، وأقوى إرادة، وأوسع معرفة؟ كما قال سقراط: “الانشغال بلا فائدة هو صورة من صور الكسل”. وما أكثر الكسل حين يُلبس ثوب الاجتماعات العقيمة.
وختامًا، لقد علّمتنا تلك الأشهر أن العمل قد يُوقف، لكن الزمن لا يُوقف. وأن أكبر خسارة ليست في إغلاق المشاريع، بل في إغلاق العقول عن التفكير والقلوب عن الشغف. فلنجعل من كل توقف مدرسة، ومن كل فراغ محطة للبناء. فالإنسانية لا تعرف التجميد، والضمير الحي لا يعرف الانتظار.
إننا لا نُحاسَب فقط على ما فعلناه حين كانت الأبواب مفتوحة، بل أيضًا على ما أهدرناه حين كانت مغلقة.
والوقت، كما قال الحسن البصري، “أيامٌ مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك”.فاحذر أن يمرّ بعضك في انتظارٍ فارغ، بينما كان يمكن أن يكون بناءً خالدًا.
