حين تكشف الكلمات وجوهها المخفية

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في إحدى المكالمات الهاتفية، جلست أسمع صديقي الذي اعتدت أن أناديه منذ سنوات بلقب “الباشا”. كان في نظري رجلًا وقورًا، صاحب مهابة وودّ، واللقب بدا لي دومًا عنوان احترام. غير أنّه في تلك المكالمة الأخيرة باغتني بابتسامة لم أرها ولكنني شعرت بوقعها في صوته:
“أتعرف يا صديقي معنى كلمة باشا؟” أجبته بثقة المطمئن إلى بديهياته: “أليست هي لقب رفعة ومقام عالٍ، يُطلق على أهل المناصب والوجاهة؟”
ضحك ضحكة خفيفة وقال: “بل أصلها يا صاحبي يعني: حذاء الملك.”

ساد صمت قصير، ثم انفجرت داخلي أسئلة لا تهدأ. كيف يمكن للقب يتداوله الناس على أنه مدح ورفعة أن يكون في أصله إشارةً إلى تبعية قصوى؟ كيف استدرجتنا الكلمات لتغيّر وجهها مع الزمن حتى صارت ما ليست عليه؟ هنا فقط أدركت أن الألفاظ ليست مجرد أصوات تخرج من أفواهنا، بل هي مرايا لوعي عميق، وحقول ألغام تحمل في داخلها تاريخًا قد نخجل من معرفته.

المصطلحات.. جسر أم قيد؟

حين نتأمل اللغة التي نصوغ بها حياتنا، ندرك أننا أسرى مصطلحات أكثر مما نحن أصحاب قرار. كثير من المفاهيم التي نتداولها تُلقي بظلالها على عقولنا دون أن نفكر في معناها الأول. نرددها في المجالس، نكتبها في المقالات، ونبني عليها أحكامًا ومواقف، بينما حقيقتها قد تكون مختلفة تمامًا. خذ مثلًا مصطلح “الإسلام السياسي”. كثيرون يطلقونه كأنه وصف علمي موضوعي، بينما هو في الأصل مفهوم دخيل صاغه الخصوم ليحمّلوه إيحاءً سلبيًا. في الواقع، الإسلام لا يعرف فصلًا بين الدين والسياسة، لأنه دين شامل للحياة كلها. لكننا قبلنا الاصطلاح كما هو، وصرنا نتجادل في إطاره وكأنه حقيقة قائمة. إننا هنا لا ندرك أننا وقعنا في فخ المعنى المصطنع، وتركنا للمصطلح أن يصوغ وعينا دون مساءلة.

الكلمات تصنع واقعًا

ابن خلدون حين تحدث عن الاجتماع الإنساني أشار إلى أن “الناس إنما ينقادون إلى الرئاسة بالوهم والتخييل أكثر مما ينقادون بالحقائق”. ولو أعدنا قراءة هذا القول في ضوء حديثنا عن المصطلحات، لأدركنا أن الكلمات نفسها جزء من “التخييل” الذي يوجّه الناس. فحين نطلق على شخص لقبًا مثل “باشا” أو “أستاذ” أو “شيخ”، فإننا نُلبسه سلطة اجتماعية تتجاوز حقيقته.أما بيتر دركر، فقد قال عبارته الشهيرة: “ما لا تستطيع أن تسميه، لا تستطيع أن تديره.” وهذا القول يكشف بوضوح أن التسمية ليست مجرد شكل، بل هي أداة ضبط الواقع والسيطرة عليه. فإذا كنت عاجزًا عن تسمية الظاهرة بدقة، فلن تستطيع إدارتها. وهكذا تصبح الكلمات مفاتيح أو قيودًا، تصنع الفهم أو تضلله.

حين تتبدل الدلالات

الكلمات مثل الكائنات الحية، تولد في سياق محدد، ثم تنمو وتكبر وتتغير مع الزمن. بعضها يحتفظ بوجهه الأول، وبعضها يبدل جلده كما يبدل الحيّة قشرتها. “باشا” مثال صارخ: من التبعية المطلقة إلى الرفعة الاجتماعية. ومثلها كثير من الألفاظ: “الليبرالية” التي بدأت بمعنى الحرية الفردية، ثم تحولت في بعض المجتمعات إلى رمز للفوضى أو الانفلات. “التنمية المستدامة” التي تبدو بريئة، لكنها تحمل أجندات اقتصادية وبيئية معقدة قد تُستخدم أحيانًا للضغط على الدول الفقيرة.
، “العولمة” التي تبشّر بانفتاح العالم، لكنها في حقيقتها كثيرًا ما صارت أداة سيطرة اقتصادية وثقافية. نحن إذن أمام مشهد تتقاطع فيه الكلمات مع السلطة، وتصبح المصطلحات أدوات لإنتاج وعي معيّن، بل أحيانًا لإخفاء حقائق مُرّة خلف ستار براّق.

ما بين الوعي والغفلة

المعضلة الكبرى أننا – أفرادًا ومجتمعات – نردد الألفاظ بلا مساءلة. نقول “الإصلاح” دون أن نسأل: أي إصلاح نقصد؟ نرفع شعار “التنمية” دون أن نحدد: تنمية لمن؟ وعلى حساب من؟ وننادي “بالحرية” دون أن نوضح: حرية من، ولمن، وضد من؟ الكلمات هنا تصبح عملة زائفة يتداولها الجميع، بينما حقيقتها لا تكشف سوى فراغ أو تضليل. لذلك كان من أهم واجبات القيادة الفكرية والإنسانية أن تُعيد تعريف المصطلحات، وتكشف أصولها، وتضعها في سياقها الصحيح. فالقيادة التي تخضع لمصطلحات مزيفة، إنما تقود شعبها إلى ضباب لا إلى وضوح.

قصة الإنسان مع لغته

اللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب، بل هي بيت وجودنا. كما يقول هايدغر: “اللغة بيت الكينونة.” فإذا كان بيتنا مبنيًا من كلمات مشوهة، فكيف نستطيع أن نحيا فيه بسلام؟ إننا سنظل نتعثر في جدرانه. ومن هنا نفهم أن معركة النهضة تبدأ بمعركة المصطلحات: أن نعيد للألفاظ معناها، أن نطهر خطابنا من التزييف، وأن نجعل الكلمة صادقة مع حقيقتها.

بين الباشا والإنسان

عدت بعد المكالمة مع صديقي أفكر: كم من ألقاب نتداولها للمديح وهي في أصلها مهينة؟ وكم من مفاهيم نرفعها كشعارات وهي في أصلها قيود؟ وربما كان أجمل ما في تلك اللحظة أنني أدركت أن الإنسان، قبل أن يكون “باشا” أو “رئيسًا” أو “مديرًا”، هو إنسان. وأن كل الألقاب والمصطلحات إن لم تردّنا إلى حقيقتنا الإنسانية، فهي مجرد أصباغ لا تصمد أمام أول مطر.

نحو قيادة لغوية رشيدة

إن القيادة الرشيدة لا تقوم فقط على حسن الإدارة وصواب القرار، بل أيضًا على سلامة اللغة التي تخاطب بها الناس. فالقائد الذي يختار كلماته بدقة، ويكشف معانيها بوعي، إنما يحرر فريقه من أسر التزييف. أما الذي يلهث خلف المصطلحات الرائجة دون مساءلة، فإنه – من حيث لا يدري – يسلم وعي منظمته إلى الآخرين.

وختامًا: من حكاية “الباشا” التي بدت أول الأمر طرفة لغوية صغيرة، انفتحت أمامي أبواب عالم كامل: عالم الكلمات التي نعيش بها، دون أن ننتبه إلى أنها تعيش فينا أيضًا. الكلمات ليست بريئة،والمصطلحات ليست محايدة، بل هي وجوه للسلطة والمعنى. وإذا أردنا أن نبني مستقبلًا رشيدًا، فعلينا أن نعيد النظر في معجمنا اليومي، وأن نحرر لغتنا من زيفها، فنحرر أنفسنا من التبعية.
إنها دعوة للتأمل في كل كلمة ننطق بها: ماذا تحمل؟ ماذا تخفي؟ وأي طريق ترسم لنا؟ عندها فقط ندرك أن القيادة تبدأ من الوعي بالكلمات، وأن الأمة التي تملك لغتها بوعي، هي الأمة التي تملك مصيرها بجدارة.

اللهم اجعل كلماتنا سلمًا لا سيفًا، وحقًا لا زيفًا، وصدقًا يفتح القلوب ولا قيدًا يحجب العقول. اللهم ألهمنا لغةً طاهرةً كما أنزلت كتابك مبينًا، وامنحنا وعيًا نرى به حقائق الأشياء فلا نُفتن بزخرف الألفاظ ولا نُستدرج بظلال المصطلحات. واجعلنا يا رب من الذين إذا تكلموا أحسنوا، وإذا سمّوا أخلصوا، وإذا قادوا بالكلمة قادوا إلى نورك وهدى رسالتك، فلا تزل ألسنتنا إلا بما يرضيك، ولا تضل أفهامنا إلا إلى حق تهدي إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top