|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي
للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال
هناك أمسيات تبقى محفورة في الذاكرة، ليس لما تحتويه من طعام أو كلمات عابرة، بل لما تحمله من حضور الروح، ووعي الأجيال، وعبق الوفاء والإنسانية. مايو 2019 كان واحدًا من تلك الأيام التي غيرت شيئًا في داخلي. لم تكن مجرد مأدبة عشاء، بل رحلة روحية في معرفة النفس والبشر والمجتمع.الديوانية في منزل بومرزوق العتيبي بالكويت كانت عامرة بالدفء، تجتمع فيها المحبة والعقل والضمير، وتحمل نفحة من الكرم الأصيل الذي يجعل المكان أكثر من مساحة، بل مدرسة في الحياة.
في زاوية المكان جلس الوالد شجاع، خال بومرزوق، حضور لا يُنسى، شيخ بحجم الزمن نفسه. لم يكن حضوره مجرد هيبة، بل رمزًا للوعي المتجذر، والفكر الناضج، والاحترام الصامت.
حين تحدث، كانت كلماته خفيفة، لكنها تحمل وزن الخبرة وعمق الفهم وحكمة الأجيال.ابتسامته لم تكن مجرد حركة شفاه، بل شعاع نور ينساب على من حوله، يطمئن القلوب قبل العيون.
على الجانب الآخر، كان الضيف الكريم من قطر، بومحمد حمد الهاجري، يدخل المكان بنور حضوره وبشاشة روحه. لم يكن مجرد ضيف يشارك المأدبة، بل كان جسرًا بين القلب والكلمة، بين الضيافة والوفاء، وبين الحاضر والتاريخ.كل حركة منه، كل ابتسامة، وكل احترام يُظهره، يذكرك بأن الإنسانية ليست في المنصب أو المال، بل في الصدق والنية والطاقة التي ينقلها الحاضر للآخرين.
كنت صامتًا، أراقب متعب لأول مرة، وأراه يتعلم بهدوء، يراقب الوالد، يتأمل، يمتص كل لحظة كما لو أن الحياة تُدرس هنا بلا كتب، بلا جداول زمنية.كانت لحظاته درسًا في الوعي الإنساني، في الانتباه لتفاصيل الآخرين، في احترام الحضور، وفي التوازن بين التواضع والجدية.
ما يثير الإعجاب في هذا اللقاء ليس مجرد حضور الأشخاص، بل الهيئة الإنسانية التي تشع من المكان كله.
كل نظرة، كل حركة يد، كل صمت، كان درسًا في الحياة، في الأخلاق، في المروءة، وفي فهم النفس قبل الآخرين.شعرت أن الوالد شجاع لا يحتاج للكلمات ليعلّم، وأن كل حضور في الديوانية أصبح صفحة من كتاب مفتوح لكل من يرغب في القراءة والتعلم. تذكرت حينها معنى الاسم، وكان درسًا آخر من دروس الحياة.سألت عن شجاع سعود المذن العتيبي – بو متعب، وفجأة أدركت أن الاسم ليس مجرد حروف، بل حمل وميراث ودرس متكامل:
• شجاع: في الموقف، في المبادرة، في الصبر على الزمن والتحديات.
• سعود: في البركة، في الخير الممتد لمن حوله، وفي القدرة على نقل الفائدة بلا انتظار مقابل.
• المذن: في الأمانة، في الوفاء للأصل، وفي الثبات على القيم.
• بو متعب: في المروءة، في الجدّية، في احترام الإنسان قبل المكان، والآخرين قبل الذات.
أصبح الاسم حينها مرآة لشخصية عاش بها وأثرى بها من حوله، ودرسًا في كيفية أن يكون الإنسان حيًا في كل تصرف وكلمة ونظرة.
المأدبة لم تكن مجرد طعام، بل كانت رحلة في النفس، في قراءة الآخرين، في فهم قيم المجتمع.
كل حركة، كل نظرة، كل كلمة، كانت لوحة متكاملة، تجمع بين:
• الحكمة والصمت
• التواضع والهيبة
• الخبرة والمرونة
• الحب والوفاء
الوالد شجاع، بحضوره وصمته وابتسامته، كان كـ قلب الزمن، يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.
متعب، الجيل الجديد، كان امتدادًا طبيعيًا للحكمة، متأملًا، حاضرًا بروحه قبل جسده، يتعلم بلا كلام ويستوعب بلا ضغط. أما الضيف الكريم بومحمد الهاجري، فكان جسرًا للكرم والروح الإنسانية، للحضارة الصغيرة التي تصنعها القلوب قبل المنازل.
حين حلَّ رحيل الوالد والجد شجاع، شعرت أن كل شيء قد تغير. الديوانية، التي كانت عامرة بالدفء، أصبحت رمزًا للخلود، لمكان يحوي أثر إنسان عاش بالوفاء والمروءة والأخلاق الرفيعة.رحيله لم يكن مجرد حدث زمني، بل انتقال من اللقاء الحي إلى مجلس الخلود، حيث يظل أثره حيًا في النفوس قبل الأماكن.
في خضم هذا التأمل، أدركت أن الحياة مليئة باللحظات المشابهة.
أن الوفاء ليس كلمات تُقال، بل حضور يُحس.وأن الإنسانية ليست أفعالًا عابرة، بل أثرٌ يبقى بعد رحيل الجسد.وأن الخلود ليس في الزمن، بل في كل أثر يتركه الإنسان على من حوله، في كل درس، في كل ابتسامة، في كل كلمة صادقة.
في طريق العودة بالذاكرة، شعرت أن كل وجه، كل كلمة، كل نظرة، أصبحت جزءًا من رحلة أوسع من الحياة نفسها. كم نحن بحاجة أحيانًا لنخرج، لنرى الحياة كما هي، بلا مرشحات، بلا تضليل، لنفهم الناس ونفهم أنفسنا حق الفهم.
كان هذا اللقاء درسًا في الحياة، في الإنسانية، وفي الوفاء والخلود، في مدرسة لا يُدرس فيها إلا بالحواس والروح والقلب قبل العقل. لقد غادرنا الديوانية، لكن أثرها بقي فينا.
كان الصمت يرافقنا بعد الرحيل، يحمل بين طياته كل ما لم يُقل، وكل ما لا يُنسى:
• الوالد شجاع بو متعب، رمز الحكمة والمروءة، لم يعد حاضرًا بالجسد، لكنه حاضر بروحه.
• متعب، حامل الرسالة، المتأمل، الجيل الذي يستمر في تعلم الدروس دون أن يكرر الأخطاء.
• بومحمد الهاجري، جسر الكرم والوفاء، الذي جعل للحياة معنى أعمق عبر حضوره الروحي.
وفي النهاية، جلست أكتب هذه الكلمات، وأنا أدرك أن الحياة ليست في اللحظة وحدها، بل في الأثر الذي تتركه اللحظة فينا وفي من حولنا.
كل دقيقة، كل لقاء، كل وجوهٍ مرت أمامي، أصبحت جزءًا من لوحة إنسانية لا تنتهي ألوانها أبدًا، فاللهم اجعل الوالد شجاع بو متعب العتيبي في مقام الصالحين، وارزق روحه الراحة والسكينة، وعلّمنا من سيرته كيف نعيش بالوفاء والمروءة، وكيف نترك أثرًا حيًا بعد رحيلنا، كما ترك هو أثرًا خالدًا في حياتنا وذاكرتنا.
اللهم اجمعنا به في مستقر رحمتك، واجعل كل لقاء يجمعنا بالحياة درسًا للوفاء، والإنسانية، والخلود.