حوار بين الإنسان ونفسه: في جنازة لا تشبه الجنازات

Getting your Trinity Audio player ready...

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال

لم يكن المساء عاديًّا، ولا كان الغروب كما تعوّد الناس أن يودّع الشمس. في تلك الساعة المائلة إلى الصمت، تناهى إلى سمعي صوتٌ خافت من هاتفٍ يضجّ بالعزاءات: “انتقل إلى رحمة الله فلان…” لم أتحرك فورًا، كأن اللغة سقطت من فمي قبل أن أنطقها، وكأن الحياة توقفت لتستمع معي إلى وقع الخبر على أعماقي. وفي تلك اللحظة، سمعت صوتًا لم أسمعه من قبل…
كانت نفسي تكلّمني. قالت بهدوءٍ لا يشبه الأصوات: “ها قد بدأ الوداع يا صاح، الوداع الذي كنّا نراه في الآخرين، ونتفلسف في حكمته، دون أن ندرك أننا نمشي نحوه كلّ يوم.”

نظرت من النافذة، كانت الدنيا عادية، لكن شيئًا في داخلي تبدّل. لم أكن أودّع الراحل فقط، بل كنت أودّع نفسي القديمة. فكل موتٍ في من نحبّ، يُسقط عنّا طبقة من الغفلة، ويمزّق جزءًا من الغطاء الذي كنا نحتمي به من مواجهة الحقيقة. عندما خرجت من البيت متوجّهًا نحو المقبرة، كانت خطواتي مثقلة، لا بالزحام ولا بالحزن، بل بثقل السؤال:
من نُشيّع؟ هو أم نحن؟ أم أن الجنازة طريقٌ واحدٌ يسير فيه الجميع في اتجاهاتٍ مختلفة، من غير أن يدروا؟ همست لي نفسي: “لا تظنّ أنك تسير خلفه، بل بجانبه. كلّكم إلى المصير ذاته، ولكنّه سبق بخطوة، فقط خطوة، ثمّ ستلحقون.”

في المسجد، حيث اجتمع الناس للصلاة عليه، كان الصمت أكبر من الصوت. قرأ الإمام، وبكى البعض خفية، لكني كنت أسمع بين كلّ تكبيرةٍ صدىً عجيبًا، كأن السماء تردّد معنا الدعاء. قالت نفسي:“انظر إليهم، كلٌّ يصلي على غيره، لكنه في الحقيقة يصلي على نفسه. لا يدري متى سيُصلّى عليه، ولا من سيقف مكانه.” أحسست بشيءٍ من الخشوع لم أعهده من قبل، ليس خشوع الخوف، بل خشوع الإدراك. كأنني فهمت أن الحياة ليست خطًّا بين ميلادٍ وموت، بل دائرةٌ تبدأ كل يومٍ وتنتهي كل مساء، حتى يأتي اليوم الذي لا صباح بعده.

ثمّ خرجنا خلف الجنازة.كان الجسد المحمول على الأكتاف خفيفًا، لكن أثره ثقيل في القلوب. كانت الشمس تميل إلى الرحيل، والريح تهبّ كأنها تفتح طريقًا جديدًا في الهواء.
قالت نفسي: “كم من جنازةٍ مشيت فيها، وأنت تتحدث وتضحك، واليوم تمشي وأنت تصمت، لأن الموت حين يقترب خطوة، يُخرس الكلمات.” نظرت إلى وجوه الناس، كلٌّ يمشي على طريقته: من يبكي حبًّا، ومن يمشي أداءً، ومن يتفكّر صامتًا. أدركت أن الموت لا يوحّد الناس في الحزن، بل يفضح اختلافهم في الفهم. منهم من يرى الجنازة نهاية، ومنهم من يراها يقظة.

عند القبر، كانت الأرض مفتوحة كصفحةٍ تنتظر الكلمة الأخيرة.حين وُضع الجسد فيها، رأيت شيئًا لا يُرى: سكينة غريبة، كأن التراب فهم أكثر مما فهم الأحياء. قالت نفسي:“هذا المكان ليس نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية. كل ما كنت تراه نهاية كان في الحقيقة بداية، ولكنك كنت مشغولًا بالاتجاه الخاطئ.”

كانت الجموع تردد: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.وكنتُ أقول في سري: اللهم اجعلني أتعلم من موته كيف أحيا.ذلك هو الفارق بين من يودّع ميتًا، ومن يودّع جهله بالحياة.وبينما كان التراب يُوارى شيئًا فشيئًا، أحسست أن نفسي صارت أقرب من أي وقتٍ مضى. لم تعد غريبة عني، لم تعد عتابًا أو تأنيبًا، بل رفيقة تمسك بيدي في ظلمة الأسئلة.
قالت:“هل ترى يا صاح، كم نحن ضعفاء حين نواجه الحقيقة وحدنا؟ كم كنا نحتاج الموت لنعرف قيمة الحياة؟” سألتها: وهل كان لابد أن يموت غيري لأفهم؟ قالت: “ أحيانًا، لا يرى الأحياء إلا في مرايا الموتى. فالموت ليس عدوًّا كما تظن، إنه المعلّم الصامت الذي يعيد ترتيب الأولويات.”

حين انتهت المواراة ووقف الجميع للدعاء، شعرت أن الدعاء هو اللغة الوحيدة التي لا تترجم، لأنها تُقال بلسان القلب لا الحروف. قلت في نفسي: “اللهم إن كنتَ قد أخذت من بيننا روحًا، فخذ معها غفلتنا، وازرع فينا يقظةً تليق بكرامتك.”وكانت نفسي تردّد خلفي في خشوعٍ كأنها تصلي معي لأول مرة.

ثم بدأ الناس يغادرون المقبرة.
بعضهم أسرع، وبعضهم تأخر قليلًا، كأن الخطوة الأخيرة تثقل عليهم.
أما أنا، فكنت أسمع وقع الخطى على التراب كأنها إيقاع الوعي الجديد، لحظة الانتقال من مشهد الموت إلى مشهد الحياة بعيونٍ مبصرة.
قالت نفسي:“أترى؟ حتى الرحيل من المقبرة درس. لا تتركها كما جئتَ، دع شيئًا منك هنا… خشوعك، تأملك، صمتك.”

التفتّ إلى الخلف، نظرت إلى القبر الذي ما زال رطبًا، وقلت: “كم نحن بحاجةٍ إلى أن نُدفن رمزيًّا كلّ يوم، لنعرف ما الذي يستحق أن نُحييه فينا.” ابتسمت نفسي، وقالت: “وهكذا يولد الإنسان الحقيقي بعد كلّ وداع، يولد من رماد غفلته.”

وقف أهل الراحل صفًا واحدًا، كأنهم سورٌ من الحنين يحيط بغيابه.وجوه متعبة، وعيون أنهكها الصبر، وقلوبٌ تُخفي تحت الثبات زلزلةً من الحزن النبيل.تقدّم الناس واحدًا تلو الآخر، يعزّونهم بعباراتٍ محفوظة، لكن ما كان يُقال لا يُشبه ما يُحَسّ. كنت أرى في كل يدٍ تُصافحهم وعدًا صامتًا، وفي كل نظرةٍ دعاءً لم يُنطق به.

قالت نفسي بصوتٍ مبلّلٍ بالرحمة:
“هؤلاء الذين يصطفّون لتلقّي العزاء لا ينتظرون كلماتٍ تُقال، بل دفئًا يُسكَن. إن العزاء الحقيقي ليس في الجملة التي تُقال، بل في القلب الذي يحضر.” رأيتُ أحدهم، كبير العائلة، يحبس دمعةً تُوشك أن تفضحه، فرفعت نفسي عني السؤال:“كم من الحزن نُخفيه خوفًا من الانهيار أمام الآخرين؟ وكم من الصبر نظهره ونحن نرتجف من الداخل؟” لم يكن المشهد طقسًا اجتماعيًا، بل صفًّا من الأرواح تتبادل الصبر كما يتبادل الناس التحية. وحين مررت بينهم، لم أجد في لساني كلامًا، فاكتفيت بلمسةٍ خفيفةٍ على يد أحدهم،
وكانت تلك اللمسة أصدق عزاءٍ مما تكتبه الكتب.قالت نفسي:“هكذا يُختبر الإنسان في لحظة العزاء… هل يحضر بجسده أم بروحه؟ فبعض المواساة تُسكب دمعةً، وبعضها يُسكب نورًا.”

في طريق العودة، لم أتحدث مع أحد. كان في داخلي حديث لا ينتهي.
تذكّرت الراحل، لا بصفته ميتًا، بل معلمًا خفيًّا أوفدته السماء ليعيد ترتيب ذاكرتي. تذكّرت كل ما أجلت فعله، وكل قلبٍ انتظرت مصالحةً معه، وكل لحظةٍ كنت أستطيع أن أكون فيها إنسانًا أفضل ولم أفعل.
قالت نفسي: “الآن فهمتَ أن الوقت ليس ملكك، وأن الفرصة ليست وعدًا. عش كما لو أن الجنازة القادمة لك، لا عليه.”

وعندما وصلت البيت، جلست وحدي. لم أفتح هاتفي، لم أكتب شيئًا، لم أردّ على أحد.كان الصمت يُغنّي في قلبي أغنية لم أسمعها من قبل، أغنية عنوانها: الرجوع إلى النفس. قالت نفسي: “ألم أقل لك إنني كنتُ الرفيق المنسيّ؟ أنا التي تركتَها خلف انشغالاتك، واليوم عدت إليّ. لا تخف من صوتي بعد الآن، فكل ما أقوله هو دعوة للصدق، للرحمة، وللصفاء.” نظرت حولي، شعرت أن كل شيءٍ تغيّر. حتى الأشياء البسيطة بدت أكثر حياة.
أدركت أن من يشيّع ميتًا بصدق، يعود مولودًا جديدًا.فالمقبرة ليست نهاية الأجساد، بل بداية الأرواح العاقلة، تلك التي فهمت، وآمنت، واستفاقت.

وفي ختام اليوم، رفعت يدي بالدعاء، لا للميت فقط، بل لكل حيٍّ ينسى أنه سيموت. قلت: اللهم اجعلنا من الذين إذا حضروا الجنازة فهموا الرسالة، وإذا واروا التراب تذكّروا اللقاء، وإذا عادوا إلى بيوتهم، عادوا بقلوبٍ نقيةٍ ترى النعمة قبل الفقد،
اللهم اجعل موتانا عبرة، وأيامنا عبادة، وأعمالنا شهادة،ولا تجعل بيننا وبينك غفلةً طرفة عينٍ أبدًا.

وهكذا انتهى يوم الجنازة، ولم تنتهِ الحكاية.فقد مشيتُ في جنازةٍ لإنسان، وعدتُ من جنازةٍ لنفسي القديمة.ومن بين التراب والدعاء، وُلد فيَّ إنسانٌ آخر…إنسانٌ عرف أن الموت حياة أخرى، وأن النفس – حين تصحو – هي أصدقُ من كلّ الأحياء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top