|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي
للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال
كانت الجلسة هادئة كأنها تنصت لما سيُقال. لا ورق يُقلب، ولا أصوات تُسمع، غير أنفاس رجلين اجتمعا على همٍّ واحد، وقلقٍ واحد، وإيمانٍ واحد بأن المؤسسة لا تُبنى على مجاملة، ولا تنهض على صمت.
كان أحدهما يحمل في عينيه تعب التجربة، والآخر في كلماته صدق المحبة، وبينهما قطاعٌ بأكمله ينتظر من يرمّمه بالحكمة لا بالقسوة.
قال القائد الجديد بصوته الرزين:
“القطاع في مرحلة الإنعاش… يحتاج من يضخّ فيه صدق النوايا قبل سرعة القرارات.” ابتسم الخبير ابتسامة من يعرف الطريق، ثم قال بهدوءٍ يشبه النصح أكثر من النقد:“وأنا معك، لكننا لا نستطيع إنعاش الجسد إذا بقينا نخاف من تشخيص المرض.”
وهكذا، بدأ حوارٌ لا يوصف بأنه إداريٌّ فقط، بل إنسانيٌّ بامتياز. حوارٌ بين قائدٍ يُدرك أن الأمانة أثقل من الرضا، وخبيرٍ يعرف أن الكلمة الصادقة قد تُجرح لكنها تُنقذ.
لحظة تشخيصٍ نادرة
ما جرى تلك الليلة لم يكن اجتماعًا رسميًا، بل لحظة صدقٍ نادرة في زمنٍ باتت فيه المؤسسات تُدار بالمجاملات أكثر مما تُدار بالمعايير.
ففي كل مؤسسة، هناك لحظة فاصلة: إما أن تُواجه ضعفها بشجاعة، أو تُغطيه بابتسامات البروتوكول. ولأن القلب كان نقيًا، جاءت المكاشفة بلا خشونة، والحقائق بلا تجريح، والرؤية بلا خوف. قال الخبير للقائد الجديد:
“المدير الإداري طيب، لكنه ما زال في مرحلة التنفيذ لا القيادة… ينسق، لكنه لا يقود، يتلقى التوجيه، لكنه لا يصنع المسار.” فأطرق القائد الجديد، وهو يعرف أن الصدق أحيانًا يوجع، لكنه الدواء الوحيد الذي يحيي المؤسسات بعد خدر المجاملات.
لقد كان كلاهما يرى المشهد من الزاوية ذاتها، لكن أحدهما تجرأ أن يُسمي الأشياء بأسمائها.
حين تتحول المجاملة إلى سياسة
المجاملة في المؤسسات ليست خطأً صغيرًا، إنها بداية الانهيار الناعم. تبدأ بابتسامةٍ دبلوماسيةٍ هنا، وبتجاوزٍ بسيطٍ هناك، ثم تتحول مع الأيام إلى عرفٍ إداري يُجمّل الضعف ويُصالح الفشل. وما بين التهاون والتبرير، تفقد المؤسسات بوصلة التوازن، وتصبح رهينة لما وصف يومًا: “الذين لا يملكون الشجاعة ليواجهوا الخطأ، يصنعون منه عادة.”
وهكذا كان التحدي أمام القائد الجديد: أن يقف على خيطٍ رفيع بين الإنسانية والعدالة، بين محبته للناس والتزامه بالمبدأ، بين أن يبقى كريمًا في خُلقه، وحازمًا في قراراته. فالمؤسسة التي تُدار بالمجاملة تُشبه سفينةً يُقودها رُبّان لا يريد أن يُغضب أحدًا من الركّاب.لكن البحر لا يرحم اللطف الزائد، بل يحترم الحزم الذي يحمي الجميع من الغرق.
المسؤولية التضامنية
لم يكن اللقاء بين الخبير والقائد الجديد لحظة نقدٍ، بل لحظة تحمّلٍ مشتركٍ للأمانة.كان كلٌّ منهما يعرف أن المؤسسات الكبرى لا تُنقذها قراراتٌ فردية، بل تحالفُ صادقٍ بين العقول النقية.قال الخبير وهو يطوي ملاحظاته:“لن أكون ناقدًا من بعيد، بل سندًا من قريب.”فابتسم القائد الجديد وقال:“وأنا لن أتركك وحدك في طريق الإصلاح، فالحق يحتاج إلى من يحميه لا من يرويه.”في تلك اللحظة، لم يكن بينهما توقيع أو تعهد مكتوب، بل عهدٌ في القلب: أن تكون الصراحة طريق البناء، وأن تُحفظ المؤسسة بالصدق قبل اللوائح. وهنا تتجلى المسؤولية التضامنية، لا كمصطلح إداري، بل كقيمةٍ إنسانيةٍ عظيمة.فالقيادة ليست أن تُصدر أوامر، بل أن تتقاسم الأعباء، وأن تعترف بأن الإصلاح لا يتم إلا بأيدٍ متكاتفة، وضمائر متيقظة.
إرثٌ قديم ودولةٌ ناعمة
كان القطاع يعيش ما يشبه مرحلة “الإنعاش الإداري”. إرثٌ قديم ترك طبقاتٍ من التراخي والعادات، و“دولةٌ ناعمة” داخل المؤسسة تمارس نفوذها بالهدوء، تحافظ على مصالحها وتخشى التغيير. وفي مثل هذا المناخ، يكون القائد بين خيارين: أن يُساير حتى يبقى محبوبًا، أو أن يُصلح حتى يُتهم بأنه قاسٍ.وقد قال “نيلسون مانديلا” ذات يوم:“القائد الحقيقي لا يبحث عن الإجماع، بل يصنعه بعد أن يقول الحقيقة.”وذلك ما فعله القائد الجديد حين قرر أن يضع النقاط على الحروف، لا لأن الناس تنتظر منه الشجاعة، بل لأن المؤسسة تحتاج منه الأمانة.ومن حوله خبراء يحملون شموع الوعي لا ليُظهروا ما هو مظلم، بل ليُضيئوا الطريق لمن أراد السير.
الشركاء حين يفقدون الثقة
في عالم المؤسسات، لا يقرأ الشركاء البيانات بقدر ما يقرأون الوجوه والأساليب. وحين يرون التردد في القرار، والضعف في تمثيل القطاع، تتسلل إليهم الشكوك: هل هذه المؤسسة كما كانت؟ هل بقيت العدالة معيارًا؟ هل ما زالت الكفاءة هي المعيار، أم بدأت المجاملات تُعيد رسم الخارطة؟ وهنا، تصبح سمعة المؤسسة رهينة أداء قادتها، لا إنجازاتها. فالثقة — كما يقول ستيفن كوفي؛“تُبنى بالاتساق بين القول والفعل، وتُهدم بالاستثناء الأول. ولذلك، كان لزامًا على القيادة أن تُعيد الانضباط لا بالتهديد، بل بالوضوح، وأن تُعيد الأمل إلى صفوف الموظفين الذين ينتظرون قائدًا يسمعهم لا من موقع القوة، بل من موقع العدالة.
أثر العدالة حين تعود
حين يشعر الموظف أن العدالة عادت، تُشفى المؤسسة من داخلها.
تُصبح الاجتماعات مثمرة، والاقتراحات صادقة، والمبادرات أكثر جرأة. فالقائد العادل يُحرر الطاقات، بينما القائد المجامل يُخدرها، وحين تُزال الحواجز بين الحقيقة والموقع، تتحول المؤسسة إلى منظومةٍ منسجمةٍ تنبض بالحياة. ذلك ما أراده الخبير حين وعد أن يكون سندًا للقائد الجديد، وما أدركه القائد الجديد حين أطلعه على الرسالة التي وصلته. فلم يكن الأمر نقلًا لمعلومة، بل تأكيدًا لعهدٍ شريف: أن نُصلح بالرفق، ونبني بالصدق، ونتواصى على الخير في زمنٍ كثر فيه التنازل باسم الحكمة.
القيادة حين تُختبر بالصدق
القيادة ليست منصبًا يُعيَّن، بل امتحانٌ يُؤدَّى كل يوم. وحين تكون المؤسسة في طور الشفاء، فإن القائد الحقيقي هو من يُعيد الثقة قبل الهيكلة، ويزرع الأمل قبل التقارير. لقد كان موقف القائد الجديد في تلك المرحلة نموذجًا لما وصفه “مالك بن نبي” حين قال:“إن البناء لا يبدأ بالحجر، بل بالإنسان الذي يحمل معنى البناء في داخله.”
وهكذا تحولت جلسة بسيطة بين رجلين إلى منعطفٍ في تاريخ قطاعٍ كامل.فالكلمات الصادقة حين تُقال في وقتها، تُغيّر مسار المؤسسات كما تُغيّر الرياح اتجاه السفن.
ما بين العهد والإنجاز
مرت الأيام، والقطاع بدأ يستعيد أنفاسه. تغيّر الإيقاع، وانخفض التردد، وبدأت القرارات تخرج بروحٍ جديدةٍ لا تخاف اللوم. لم يتغير الأشخاص كثيرًا، لكن الروح تغيّرت.
فما يزرعه الصدق لا يقتله الوقت، وما يوقظه الإخلاص لا يُخدّره الروتين. لقد أثبتت التجربة أن الإصلاح لا يبدأ بإعادة الهيكل، بل بإعادة النية. وأن أفضل ما يُقدمه الخبير للقائد الجديد في مواقع القيادة، ليس التهليل، بل الصدق المؤدب الذي يُبقي الودّ، ويُحيي الضمير.
وختامًا، إن ما حدث بين الخبير والقائد الجديد لم يكن مجرد حوار إداري، بل وثيقة إنسانية في فن القيادة النبيلة. وثيقة تقول إن المؤسسات لا تنهض بالقرارات الصاخبة، بل بالنيات الصافية، ولا تُنقذها الشعارات، بل الرجال الذين يصدقون في لحظة الهدوء أكثر مما يتكلمون في ضجيج الاجتماعات.
سيبقى ذلك المساء علامة فارقة، لأن فيه جلس الصدق على الطاولة، ووقفت المجاملة على الباب، واختار رجلان أن يُنقذا مؤسسة بأدبٍ لا بضجيج، وبشجاعةٍ لا بعداء، وبمحبةٍ تكتب للتاريخ لا للمناصب.فمن ذا الذي قال إن الصراحة تُفرّق؟
بل هي – حين تصدر من قلبٍ نقيٍّ وعقلٍ أمين – توحّد القلوب وتُحيي المؤسسات.