بين النية الطيبة والأنا البشرية

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال

جلستُ في مكتبي، أطالع الرؤية التي أرسلتها وحدة الموارد البشرية لإحدى المؤسسات، وهي رؤية تهدف إلى حصر الاحتياجات التدريبية للموظفين. بدا لي الملف كحجر كريم خام، مضيء بالنية الطيبة، يحمل في طياته إمكانية للتغيير والإصلاح، ولكنني كنت أعلم، من خبرتي الطويلة في التطوير المؤسسي، أن أي جهد، مهما كان طيبًا، معرض للانكسار تحت وطأة النفس البشرية.

أمضيت ساعتين كاملتين، أقرأ، أحلل، أعلق، وأعيد الصياغة، وأتأكد أن كل ملاحظة تصل إلى جوهر المسألة، وأن كل توجيه سيحقق أثره العملي. أرسلت تعليقاتي في بريد خاص، دون أن أتوقع سوى تقدير بسيط، دون أن أنتظر تعديلًا أو تنفيذًا، لأن الهدف كان تحسين العمل، لا إثبات الذات.
وصلتني بعدها رسالة رقيقة، مختصرة بالشكر. ابتسمت، وغادرت الأمر كما هو، مستمتعًا بالسلام الداخلي الذي يشعر به كل من يؤدي واجبه بصدق.لكن المفاجأة جاءت بعد يوم، حين أرسل صديق آخر النسخة المعدلة من الرؤية ليأخذ رأيي، دون أن يعرف ما دار بيني وبين وحدة الموارد البشرية. وما وجدته كان بمثابة صدمة: التعديلات كانت تحتاج جهدًا مضاعفًا، كأن بذور النية الطيبة التي حملتها الرؤية قد أُسيء التعامل معها، وخرجت مشوهة.

هنا تتجلى الحقيقة المرة: ليست النية وحدها كافية. حتى أرقى النوايا، وأكثرها إخلاصًا، قد تتحطم إذا لم يُصاحبها تقدير للجهد، ووعي بالآخر، وتواضع في التعامل مع المخرجات. وما حدث كان مثالًا حيًا على الأمراض النفسية المجتمعية التي تتسلل إلى المؤسسات: الغرور، الطموح المفرط، الاعتقاد بأن كل إنسان أقدر على كل شيء، وعدم تقدير جهود الآخرين. تذكرت قول ابن خلدون: “الأمم تنشأ من التعاون والتكافل، وتموت بالخصومة والغرور”، فكأن التاريخ يهمس في أذني: كل عمل جماعي يحتاج إلى روح قبل أي شيء، وإلى تواضع قبل كل تدخل.

وفي لحظة تأمل، بدأت أتخيل أن الرؤية نفسها تتحدث إليّ: “لماذا يا بني؟ أرسلت إليك بكل حب، أحمل بذور التغيير، ولكن تدخل الأنا جعل جسدي مشوهًا. وضعت أحلامك في قالب لم يكن ليليق بي. كل خطوة خاطئة بسبب من ظنوا أنهم أقدر على كل شيء، أذابت روحي، وحولت النية الصافية إلى نتيجة مشوهة”هنا يصبح السرد رمزيًا، حيث تتحول المؤسسة أو الرؤية إلى كائن حي يشعر بما يحدث داخلها. وكل تدخل مدفوع بالغرور أو الأنا يحفر أثرًا في جسد الجهد، ويجعل الإنجاز أقل اكتمالًا، كما لو أن روح المشروع تتألم صامتة. هذا الواقع يعكس أمراضًا نفسية مؤسسية عميقة: الشعور بأن الفرد أقدر على كل شيء، وقصر النظر في تقدير الآخرين، والغفلة عن أثر التقدير والاحترام، كلها تؤدي إلى تشويه العمل الجماعي، حتى ولو كانت النية صافية.

لكن من منظور إنساني، هذا الدرس ليس محبطًا، بل ملهمًا: فإنه يعلمنا أهمية الوعي الذاتي، والاحترام المتبادل، والمسؤولية الواقعية في العمل. وكما قال مصطفى كامل: “الشعب يرفع الأمم إذا عمل كل فرد فيه بروحه الكاملة، لا بأناه فقط”. فالعمل الجماعي الحقيقي يتطلب أن تتحلى النفوس بالتواضع، وأن يكون كل تدخل مبنيًا على احترام الآخر، لا على الغرور أو الرغبة في السيطرة. في هذا السياق، يتحول المقال من مجرد سرد واقعي إلى رحلة رمزية تأملية، حيث تصبح كل مؤسسة أو رؤية مشروعًا حيًا يتفاعل مع البشر من حوله. ويتضح أن كل تدخل مدفوع بالغرور أو الأنا يخلق آثارًا سلبية صامتة، قد تظهر بعد حين كتشوهات في مخرجات العمل، تمامًا كما يظهر أثر السموم في الجنين الذي يُشوه قبل أن يولد.

وعند قراءة هذا الواقع، أدركت أن هناك ثلاثة مفاتيح أساسية لنجاح أي عمل إنساني أو مؤسسي:
1. النية الطيبة والشفافة: النية هي البذرة، وهي البداية لكل عمل. بدونها، لا يوجد أي احتمال للنجاح الحقيقي.
2. التقدير والوعي بالآخر: كل جهود الآخرين تحتاج إلى الاحترام، كل تعديل يحتاج إلى تواضع، وكل تدخل يجب أن يصاحبه تقدير حقيقي لما قدمه الآخرون.
3. المسؤولية الواقعية: إدراك أن العمل الجماعي ليس لعبة فردية، وأن أي تدخل مدفوع بالغرور قد يضر بالنتيجة، وأن على كل إنسان أن يزن أثر أفعاله قبل أن يتحرك.

وإذا أضفنا البعد النفسي، نجد أن الأنا البشرية هي الخطر الأكبر على أي مشروع إنساني. كل شخص يظن أنه أقدر على كل شيء، يزرع في العمل سمومًا صامتة، تجعل الإنجاز أقل جودة، وتؤثر على روح الفريق، وتفرغ الجهود من روحها الحقيقية.
لكن، لحسن الحظ، هناك دروس إنسانية راقية يمكن استخلاصها:
• التواضع في التوجيه يخلق تأثيرًا أعمق من التدخل الصارم.
• التقدير الصادق يضاعف قيمة الجهد، ويشعل روح المبادرة.
• الصبر على الآخرين، وفهمهم كما هم، يجعل أي مؤسسة أكثر متانة وأفضل تأثيرًا.

وفي اللحظة التي أرسلت فيها آخر ملاحظاتي على الرؤية، شعرتُ كما لو أن الروح التي تحملها المؤسسة ابتسمت لي بصمت. لم يعد المهم من عدّل أو لم يعدّل، بل كان الأهم أن بذرة النية الطيبة قد غُرست، وأن الجهد الصادق لم يضيع، وأن كل قلب صادق في العمل قد لمس الأثر الحقيقي للجهد. أيقنتُ حينها أن النجاح الحقيقي لأي عمل مؤسسي أو خيري ليس في النتائج وحدها، بل في الروح التي تُسري بين الأفراد، في النية التي تُوجه كل خطوة، في التقدير الذي يُحيي كل جهد، وفي التواضع الذي يمنح العمل أفقًا أوسع ليزهر. لقد أدركتُ أن فهم النفس البشرية وما تختزنه من غرور وأمراض صامتة هو مفتاح الحفاظ على نقاء المشاريع، وأن كل تدخل أو تعديل يحتاج إلى حكمة قبل أن يكون فعلاً، وإلى احترام قبل أن يكون رأيًا.

وفي صمت خافت، رفعتُ قلبي بدعاء: “اللهم اجعل جهودنا صافية لوجهك، وقلوبنا واعية، وأفعالنا خالصة، واحفظ مؤسساتنا من تشويه الأنا، وارزقنا تواضعًا يرافق كل عمل، وتقديرًا يملأ كل جهد، وصفاء روح يثمر أثرًا خالدًا”… وبهذه الروح، غدا كل جهد مهما بدا صغيرًا، جزءًا من أثر أكبر، ممتد، خالد، يفيض بالحياة، يزرع الأمل، ويعطي لكل إنسان درسًا في النية الصافية، والتقدير، والمسؤولية، والإنسانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top