حين أعاد الغريب إلى القرآن دهشته الأولى

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال

كانت ليلة عادية، أو هكذا ظننتها.
صليت العشاء في الصلاة الأولى، وأديت السنة كما أفعل كل ليلة. لكن شيئًا في داخلي كان يتحرك بهدوء، كأن روحي تبحث عن شيء لم يُكتمل بعد. خرجت من المسجد بخطوات خفيفة، فمرّ بصري على رجل يقف عند أحد الأعمدة، مهيئًا نفسه لصلاة جماعة ثانية. لم يكن معه أحد، لكن في ملامحه طمأنينة لا تشبه الانتظار، بل تشبه الدعوة. اقتربت منه دون أن أتكلم، فقط رفعت يديّ وقلت: “الله أكبر”. أقمت الصلاة، فابتسم ابتسامة خفيفة كأنها شكر صامت، وكبّر إمامًا، وكبّرت خلفه مأمومًا. ومن تلك اللحظة، بدأت الرحلة.

في الركعة الأولى، افتتح القراءة من آخر سورة البقرة. لم يكن صوته قويًا، ولا عذبًا كما تعوّدنا أن نسمع من القرّاء، لكنه كان صادقًا بطريقة نادرة، يقرأ وكأنه يكتشف الآيات للمرة الأولى. وقف عند كل جملة، يستريح كأن الآية نفسها توقفت لتلتقط أنفاسها معه.“لله ما في السماوات وما في الأرض…” كنت أسمعها وكأنها تُقال لأول مرة في التاريخ، لا من فم قارئ، بل من فم السماء.ذلك الصوت البسيط الذي لا يعرف التكلّف أعاد إلى الكلمات معناها الأول، قبل أن تغرق في العادة والتكرار. كانت الآيات تمرّ عليّ كطيور مهاجرة، تحطّ على قلبي واحدًا تلو الآخر. شعرت أن الإمام ليس يقرأ لي، بل يُعيدني إلى لحظة الخلق الأولى، إلى دهشة آدم حين سمع أول كلمة من كلمات ربه. وحين ركع، أحسست أن الأرض كلها ركعت معه. لم يكن في الركوع جهدٌ ولا تصنّع، بل خضوعٌ صادق يشبه عودة طفل إلى حضن أبيه بعد غياب طويل.

ثم قام للركعة الثانية، فقرأ سورة القدر.“إنا أنزلناه في ليلة القدر…”
يا الله، كم مرة سمعنا هذه السورة؟ لكن في تلك الليلة، شعرت أنها تنزل من جديد، لا في ليلة القدر وحدها، بل في قلبي الذي صار قدرًا جديدًا للوحي.قرأها ببطءٍ كأنه يسير في حديقة من نور. كانت الحروف تمشي على الأرض مشيًا حنونًا، والآيات تتدلّى كنجومٍ صغيرة من سقف السماء. وحين وصل إلى “سلامٌ هي حتى مطلع الفجر”، سكن كل شيء. سكنت أنفاسي، وسكنت الدنيا، وسمعت السكون نفسه يقول: ها قد وصلت الرسالة.

بعد التسليم، لم أتكلم. بقيت في مكاني قليلًا، لا أريد أن أنهض من عالمٍ اكتشفت للتو أنه أوسع من الأرض. الإمام نظر إليّ نظرة عابرة، وابتسم كأنه لا يدري أنه كان رسولًا عابرًا للسكينة. خرج قبل أن أستطيع شكره، وبقي صوته في أذني، لا كصوت إنسان، بل كصدى لشيءٍ سماويٍّ مرّ بي صدفةً ليوقظني. جلست بعده طويلًا، وبدأ داخلي حوارٌ غريب، لم يكن بيني وبيني، بل بين الأرض والسماء.

قالت الأرض: “يا هذا، كم مرة صليت عليّ جسدًا غائبًا؟ كم مرة سجدت دون أن تسكن فيك السجدة؟
كم مرة أقمت الصلاة ولم تُقمك الصلاة؟”

فأجابت السماء: “دعوه، هذه الليلة لم يكن في الأرض وحده. لقد التقط نداءً لم يُنشر في الأفق، نداء من قلبٍ صدق في طلبه، فأنزلنا عليه سكينة لم يُعطها أحدٌ قبله في تلك الساعة.” حينها أدركت أن البساطة في الإيمان ليست فقرًا في المعرفة، بل غنى في الصدق. ذلك الإمام المجهول لم يكن يبحث عن جمال الأداء، بل عن جمال الوصول.
لقد صلّى بنا بصدقٍ كأنما يقدّم قلبه قربانًا للسماء.

في تلك اللحظة، تذكّرت قول الإمام الغزالي رحمه الله: “ليس العجب ممن لم يخشع إذا جهل، إنما العجب ممن علم ولم يخشع، لأن العلم طريق الخشوع.” كم علم عندنا يا رب، وكم خشوع ضاع بين أوراقه؟ ذلك المجهول – دون أن يدري – أعادني إلى أول معنى للصلاة: أن تُصلي لا لتؤدي فريضة، بل لتعيش لقاءً.

ثم خطر ببالي قول ابن عطاء الله السكندري: “ربّ ركعةٍ واحدةٍ كانت سفينة نجاةٍ، وربّ عمرٍ من الركوع والسجود لم يقطع خطوة إلى الله.”
شعرت أن الركعتين تلك الليلة كانتا سفينتي. أقلعت بي من برّ الاعتياد إلى بحر المعنى، وأيقظت فيّ شيئًا نسيته طويلًا: أن القرآن ليس ليُسمع، بل ليُحيا.

عدت إلى بيتي، وكل شيء في الطريق بدا مختلفًا. الهواء أكثر نقاء، والأصوات أكثر سكونًا، والليل كأنه يسير معي خطوة بخطوة. كنت أقول في نفسي: “يا الله، هل يمكن أن تكون أبسط لحظة في الحياة هي أعمقها؟
هل يمكن أن يكون الجمال في صوتٍ لا يُتقن المقامات، لكنه يُتقن الوصول إلى القلب؟” تلك الليلة لم يكن الإمام من كبار القرّاء، لكنه كان من كبار الواصلين.قرأ القرآن كما يُقرأ الحنين، وكأن كل آية رسالة شخصية من الله إليه، ومنه إليّ.

في التأملات التي تبعت الصلاة، شعرت أن الركعتين لم تنتهيا، بل بدأتا بعد السلام.فكل لحظة تأمل كانت ركعة جديدة، وكل استغفار كان سجدة أخرى.ولأول مرة، فهمت أن السكينة لا تأتي من الخارج، بل من الداخل حين يلتقي الصدق بالآية، وحين تصبح الكلمة سلمًا للروح إلى الله.رأيت في ذلك الإمام صورةً لكل من يصنع الجمال بلا ضجيج، ويؤدي الرسالة دون أن يعلم أنه رسولها.
هو أشبه بشعاع الفجر حين يشقّ الظلمة دون أن يرفع صوته، أو بنسمةٍ خفيفةٍ تمرّ على قلبٍ متعب فتوقظه من غفوته الطويلة.

الركعتان صارتا عندي مدرسة، علّمتني أن الله قد يفتح لك بابًا من الخشوع لا في خطبةٍ ولا في درسٍ ولا في تلاوةٍ طويلة، بل في لقاءٍ عابر، أو في صوتٍ لم تتوقعه.فالجمال الذي يأتيك من حيث لا تحتسب، هو غالبًا أقرب الطرق إلى الله. ومنذ تلك الليلة، كلما سمعت سورة البقرة أو القدر، أسمعها بقلبي لا بأذني. أسمع البقرة وهي تقول لي:
“أليس لله ما في السماوات وما في الأرض؟ فدَعْها له كلّها، ودَعْ نفسك له أيضًا.”وأسمع القدر تهمس:“إن في كل ليلةٍ قدر، لمن صدق في الدعاء ووقف عند باب الرجاء.”

يا لها من ليلةٍ أعادت للقرآن دهشته، وللقلب فطرته، وللصلاة معناها.
ليلة علّمتني أن الله يختار الوقت، والصوت، والمكان، والآية، ليقول لك شيئًا لم يقله لك من قبل.لقد شاء أن أسمع نهاية البقرة وبداية القدر في لحظةٍ واحدة، كأنها ختامٌ وبدايةٌ في آنٍ واحد: ختامٌ لغفلةٍ قديمة، وبدايةٌ لرحلةٍ نحو يقينٍ جديد. حين عدت إلى المسجد بعدها بيوم، بحثت عن الإمام فلم أجده.سألت عنه فقالوا: “ربما كان مسافرًا أو زائرًا.”ابتسمت، لأني فهمت الرسالة. هو لم يأتِ ليبقى، بل جاء ليترك أثرًا ثم يختفي، كما تفعل الرسائل الإلهية حين تكتمل مهمتها.

منذ تلك الليلة وأنا أؤمن أن الله قد يرسل إليك “إمامًا مجهولًا” ليذكّرك بأنك ما زلت عبدًا معروفًا عنده، وأن الجمال ليس فيما يُسمع، بل فيما يُحسّ به القلب حين يعود إلى مصدره الأول. تلك الصلاة كانت قصيدة بلا حروف، وسفرًا بلا خريطة، ودرسًا بلا معلم. واليوم أكتب عنها لا لأروي حدثًا، بل لأقول: إن الله ما زال يُنزل “القدر” كل ليلة على من يفتح قلبه للآية الأولى.

وختامًا، ليست كل صلاة تُصلى على الأرض، بعضها يُرفع في السماء قبل أن تنتهي التكبيرة. وليس كل إمامٍ بصوتٍ جميلٍ مؤثر، فبعضهم يؤمّ القلوب لا الأجساد.وتلك كانت ليلتي التي لن تُنسى: ليلة قرأت فيها الأرض مع السماء صلاة واحدة، بصوت رجلٍ بسيطٍ أعاد إلى القرآن دهشته الأولى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top