حين يبقى الخط مفتوحًا بين الأرض والسماء

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال

لم يكن الاتصال يومًا مجرّد رقمٍ يُطلَب، ولا صوتٍ يُسمَع، ولا دمعةٍ تُخفى عند نهاية المكالمة. الاتصال – في جوهره – حالة روحية، نداء فطرةٍ تبحث عن مأمنها حين يضيق بها الوجود، وما أروع أن يكتشف الإنسان تلك الحقيقة متأخرًا، بعد أن تمرّ عليه السنون، وتغيب عنه الوجوه التي كان يلوذ بها في الأزمات، فإذا بالحياة تُعيد ترتيب خيوط الارتباط على نحوٍ لم يخطر له ببال. في كل مرةٍ كان يمرّ فيها بعاصفةٍ من همٍّ أو انكسار، كان قلبه يتجه تلقائيًّا نحو الهاتف، نحو ذاك الرقم المحفور في الذاكرة قبل أن تُحفَظ فيه الأسماء. رقم الأب… ثم الأم… ثم من في مقامهم من أهل الطاعة والسيرة الحسنة. لم يكن يطلب مالًا، ولا مشورةً دنيوية، بل كلمةً واحدةً يعرف أنّها تُحرّك القدر: “دعواتك يا والدي…” “استغفري لي يا أمّاه…”

كانت تلك الكلمات عنده بمنزلة الأذان في صدرٍ أرهقه الصمت. وحين غاب الوالدان، لم يغِب النداء. ظلّ يرنّ في داخله كصدى صلاةٍ لم يُتمّها، كحنينٍ لم يجد مقامه بعد. صار يرفع الهاتف نحو السماء قبل أن يبحث عن اسمٍ في دفتره، ومع مرور الأعوام، وجد نفسه يتصل بشقيقاته. لم يكن يخطط لذلك، لكن شيئًا في صوتهنّ كان يُعيد للروح توازنها. كانت إحداهنّ حين تسمع نبرة وجعه تقول بصدقٍ بسيطٍ: “يا أخي، سيأتي الفرج كما يأتي الفجر، لا يُرى وهو يقترب، لكنه يُشمّ في رائحة الليل.” عندها كان يشعر أنّ الله لم يسلبه أحدًا، بل بدّل طريق الرحمة. وأنّ الدعاء الذي كان يأتي من الأب والأم في الحياة، ما زال يأتي من قلوبٍ رُبِّيَت على نورهما.

في تلك اللحظات المفعمة بالسكينة، يتذكّر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو يعلم العبد قدر الدعاء، ما رفع يديه إلا وهو يبتسم.” كان يبتسم فعلًا، رغم وجعه، لأنّه أدرك أن الدعاء ليس وسيلة نجاة، بل هو النجاة ذاتها. وأن الله لم يقطع الحبل بينه وبين عباده، بل يترك دائمًا خيطًا يُرشد إلى رحمته… قد يكون في كلمة أختٍ، أو نبرة قريبٍ صالح، أو في نسمةٍ من ذكرى أبٍ ما زال صوته يصدح في ذاكرة البيت. تعود الذكريات، فيرى نفسه صغيرًا، كلّما ضاق صدره ركض إلى أمه، يستجدي منها شيئًا لا يعرف اسمه. كانت تضع يدها على رأسه وتهمس: ” قل يا رب، إن الله قريب.” فكان يشعر حينها أنّ الكون كلّه يصغر حتى يُصبح بين كفّيه. واليوم، بعد رحيلها، حين يسمع صوته الداخلي يهمس بنفس الجملة، يُدرك أنّ الأمّهات لا يمُتن، إنهنّ يتحوّلن إلى أصواتٍ داخلنا تُذكّرنا بالطريق كلّما أضلّنا الزحام.

تلك المكالمات البسيطة، التي تبدأ بحرف شكوى وتنتهي بدعاء، كانت في حقيقتها جلسات تجديد إيمانٍ، لقاءات بين الأرواح قبل أن تكون بين الهواتف. وفيها تتجلّى فلسفة ابن عطاء الله السكندري حين قال: “ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القَبول، وربما قدّر عليك الذنب فكان سببًا في الوصول.” لقد فهم معنى هذه الكلمات حين تأخّر عليه الفرج في أكثر من موقف، ثم أدرك بعد زمن أن تأخّره كان طريقًا إلى قربٍ لم يعرفه من قبل. فالدعاء الذي لا يُستجاب فورًا لا يضيع، بل يتخمّر في الغيب حتى ينضج زمنُه. وهذا الإدراك هو أعظم ما يمنحه الله لعبده، أن يبدّل استعجاله رضًا، وأن يجعل من كل تأخيرٍ درسًا في الثقة.

في لحظة صفاء، جلس عند شاطئ البحر يتأمل الموج، وهو يفكر كيف تتوالى الأمواج كالمكالمات، بعضها يهدأ، وبعضها يضجّ، لكن البحر – كالحياة – لا يقطع الاتصال. نظر إلى الأفق وقال في نفسه: “ربما كان الدعاء هو المكالمة الوحيدة التي لا تحتاج تغطية، ولا تُغلق بانتهاء الرصيد، لأن الخطّ ممتدٌّ بين الأرض والسماء.” عندها فقط، شعر بالفرج. لم يأتِ مالًا ولا حدثًا ماديًّا، بل جاء في هيئة سكينة، سكينة لا توصف. كأنّ شيئًا في داخله استقام فجأة، واستدار وجهُ القدر نحو النور. كتب في مذكراته تلك الليلة: “كنت أظن أن الفرج يُقاس بالحدث، حتى علّمني الله أن الفرج يُقاس بالطمأنينة. كنت أظن أن الاتصال بالناس وسيلة، حتى اكتشفت أنه تذكرة عبورٍ إلى الله.” وتذكّر قول: ” ليس الدعاء أن تطلب من الله ما تريده، بل أن تصبح على الصورة التي يريدها الله لك.” عندها فهم أنّ الدعاء ليس فقط طريقًا للفرج، بل ورشةُ بناءٍ داخليٍّ تشكّل الإنسان على هيئة الرضا. وأن أولئك الذين كنا نلجأ إليهم في حياتنا، لم يكونوا إلا مرايا نرى فيها ملامح رحمة الله، حتى إذا غابوا، بقينا نعرف وجهها.

في كل مرةٍ يرنّ فيها هاتفه، يشعر بشيء من الخشوع. لم يعُد يتصل ليشكو، بل ليشارك النور. يرسل رسالةً لأخته في آخر الليل: “ذكّرتني دعواتك بدعاء أمي، فشكرتُ الله على أن رحمته لا تنقطع بموت أحد، بل تمتدّ في قلوب من تبقّى.” فيردّ عليه القدر بإشارةٍ خفية: ينفتح بابٌ كان موصدًا، أو تُحلّ عقدةٌ في العمل، أو يلتقي بإنسانٍ جديد يفتح له بابًا من الخير. فيقول في نفسه: “ها هو الفرج يأتي، لا كما أردتُ، بل كما اختار الله.” في عمق التجربة، أدرك أن الأزمات لا تُعرّفنا بالناس، بل بالله. وأن الدعاء لا يحتاج من يوصله، لأنه سابق الوصول. وأنّ الذين نحبّهم، حين يرحلون، لا يقطعون الحبل بيننا وبين السماء، بل يشدّونه أكثر. فمن خلالهم تعلمنا لغة الدعاء، وبهديهم استقمنا على درب الصبر، وبذكراهم نُعيد ترميم قلوبنا كلّما تصدّعت من الحنين.

ثم يكتب في خاتمة دفتره، بيدٍ ترتجف من الامتنان: “يا رب، علّمتني أن الدعاء هو الاتصال الذي لا يُغلق، وأنك تردّ على المكالمات التي لا يُسمع فيها الصوت. فامنحنا من بعد أحبابنا من يدلّنا عليك، واجعل من أصواتهم الباقية فينا سبيلاً إليك.” ويغلق الدفتر، فيسكن قلبه كما يسكن البحر بعد العاصفة، وقد علم أنّ الفرج ليس وعدًا مؤجَّلًا، بل هو حضور الله في اللحظة. فما دام الإنسان يتصل، وما دام الله يسمع، فلا قطيعة بين الأرض والسماء. وختامًا: هكذا تُعلّمنا الحياة أن الدعاء ليس تكرارًا، بل استمرارًا. وأن الله، حين يأخذ، لا يترك الفراغ، بل يزرع فيه من يُعيدك إليه. فمن كان يدعو لك بالأمس بلسانٍ حيّ، يدعو لك اليوم بروحٍ خالدة. والفرج – يا صاح – ليس حدثًا يأتيك، بل حالةٌ تسكنك حين تتصل بصدقٍ بمن لا ينقطع عنه الاتصال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top