|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي
للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال
لم يكن البريد الإلكتروني صباح ذلك اليوم كغيره من الرسائل التي تمر على شاشة المسؤولين بلا أثر.
كان يحمل موعدًا لاجتماعٍ مع شركةٍ حول الإصدار الثاني من البرنامج الآلي للمشاريع. عنوانٌ عاديّ، وكلماتٌ رسمية، لكن في عمقها شيء استوقف العين الواعية ولامس الفكر الناضج. ذلك أن القيادة – في جوهرها – ليست في حضور الاجتماعات، بل في التقاط ما بين السطور قبل أن يتحوّل إلى فجوات بين الفرق.
اطلعتُ على قائمة المدعوين، فغاب عنها اسم رئيس القطاع الجديد. لم أُرد أن أمرّ على ذلك مرور العابرين، لأن الغياب في الهيكل يعني غيابًا في الدور، والخلل الصغير اليوم قد يتحوّل غدًا إلى ثغرةٍ في منظومةٍ كاملة. رفعت الهاتف متسائلًا – لا معاتبًا – عن السبب. توقّعت سهوًا بسيطًا في الإرسال، فإذا بالردّ يأتي مبتسمًا:“هو جديد يا أبا فلان… لم نُدرجه بعد في التعميم.” ابتسمتُ بدوري، لكن في داخلي دوّت العبارة: “إنه جديد، فالأولى أن يكون أول الحاضرين، لا آخر الغائبين.”فالفكر المؤسسي لا ينتظر حتى يَتعوّد الناس على الأدوار، بل يصنع تكاملهم من أول خطوة. أعدتُ توجيه البريد، وأضافت الروح سطرًا جديدًا في دفتر الإدارة:“يُعقد لقاء عاجل لرئيس القطاع الجديد ونظم المعلومات لمراجعة الإصدار الأول من البرنامج، وعرض ملامح الإصدار الثاني، وتحديد نقطة الانطلاق.”كان المقصد واضحًا: لا نريد اجتماعًا شكليًّا، بل ولادةً جديدة للفهم المشترك.
الورشة التي أيقظت الفجوة
في الموعد المحدد، دخل الجميع إلى القاعة. الوجوه متباينة بين حماسٍ وثقةٍ وتوقّعٍ صامت.
فريق نظم المعلومات جلس في الجانب الأيمن، وفي المقابل إلى جواري رئيس القطاع الجديد، وكأن القدر شاء أن يرسم توازنًا دقيقًا في المشهد، بدأ العرض… لكنه لم يكن عرضًا مكتملًا كما توقّعنا.جاء الفريق التقني دون إعدادٍ عميق، دون شرائحٍ توضّح التقدّم، ولا أرقامٍ تؤطر المرحلة. لحظة صمتٍ سادت القاعة، كأن النظام نفسه توقف عند شاشةٍ فارغة. لكن القيادة لا تترك الصمت فراغًا؛ فهي تحوّله إلى مساحة للحوار.
قلت بهدوءٍ يشبه الموج قبل المدّ:
“لسنا هنا لنحاسب على العرض، بل لنتعلّم كيف نحسن البناء قبل أن نعيد الطلاء.”تحرّكت الأنفاس في القاعة، وبدأت المشاركة تتدفّق.
تحوّل الاجتماع من عرضٍ تقنيٍ غائبٍ إلى ورشةٍ فكريةٍ حيّة.صار كل عضوٍ يعيد تعريف البرنامج من منظوره، ويكتشف فجوات التواصل بين القطاعات. لم نخرج بتقريرٍ هندسيّ، بل خرجنا بإدراكٍ جماعي أن المشروع لا يتعثر تقنيًّا، بل إداريًّا حين يضعف التنسيق.
قال أحدهم:“ربما المشكلة في الوقت، لم نُمنح فرصة كافية للتحضير.” فأجبته:“التحضير ليس وقتًا يُمنح، بل وعيًا يُستيقظ. من أراد أن يُسهم في التطوير، فليبدأ من الليلة.” وهكذا، وُلد في تلك الورشة ما لم يكن في الخطة: مشروع وعيٍ قبل مشروع نظام.
بين التقنية والإنسان
في أروقة المؤسسات، كثيرون يُجيدون التعامل مع الأنظمة، لكن قلّ من يُجيد التعامل مع العقول.
التقنية لا تُصلح ما أفسده غياب الفهم، والذكاء الاصطناعي لا يُعوّض غياب الإنسانية.لقد علّمتني تلك الورشة أن البرامج ليست شيفراتٍ جامدة، بل مرآةٌ لثقافة العمل، وأن الإصدار الثاني من أي نظامٍ هو اختبار لمدى نضجنا في الإصدار الأول من أنفسنا. تذكّرت قول بيتر دراكر: “الثقافة تأكل الاستراتيجية على الإفطار.” وأضفت في نفسي:“وغياب الوعي يأكل التقنية قبل أن تبدأ عملها.” لذلك لم يكن الإصدار الجديد من البرنامج مجرّد تطويرٍ للواجهة أو تبسيطٍ للإجراءات، بل كان رحلةً نحو تكامل الأدوار وإحياء الانسجام المؤسسي.
الوعي الذي كتب رسالتين
بعد انتهاء الورشة، كتبت رسالتين:
الأولى للحضور جميعًا – وبينهم رئيس القطاع الجديد – تتضمن خلاصة التوصيات، وأبرز ما كشفته الورشة من فرصٍ للتحسين.والثانية لفريق نظم المعلومات، تحثّ على أهمية الإعداد الجاد والتجهيز المتكامل قبل أي ورشة قادمة.لم تكن الرسالتان مجرد متابعةٍ إدارية، بل إشعارًا خفيًّا بأن القيادة تتابع التفاصيل، لأنها تؤمن أن التفاصيل الصغيرة تصنع الإنجازات الكبيرة.
أرسلت الرسالتين وابتسمت؛ كنت أشعر أن البريد اليوم لم يكتفِ بنقل المعلومات، بل حمل رسالةً أعمق:
“إن الوعي المؤسسي لا يُدار بالبرامج، بل بالقلوب التي تفهم مقاصدها.”
القيادة التي تُعيد تعريف الخطأ
في كثير من المؤسسات، يُفسَّر الخطأ كعقوبة، بينما القيادة الراشدة تراه نافذةً للتعلم. ذلك اليوم، لم يكن فشل العرض هو العنوان، بل نجاح الحوار في تصحيح المسار.
لقد خرج الجميع بشعورٍ واحد:
أن الموقف، رغم عفويته، كشف معدن الفريق وأعاد ترتيب الإيقاع بين القطاعات. هكذا تنضج المؤسسات: لا من تقاريرها، بل من لحظات مراجعتها الصادقة.وحين يُصغي القائد بإحساسٍ قبل أن يُوجّه بعقل، تتحوّل الورشة إلى مدرسةٍ للوعي، ويتحوّل الاجتماع إلى درسٍ في الرشد المؤسسي.
وختامًا، في نهاية اليوم، بقي المشهد في الذاكرة: شاشةٌ خافتة الضوء، قاعةٌ صغيرة، وأصواتٌ متبادلة بين العقل والقلب.لكن في عمق تلك التفاصيل، وُلد ما هو أعظم من تحديث البرنامج: تحديث الإنسان ذاته.لقد أدركت أن القيادة ليست أن تُمسك بالخيوط، بل أن تُعيد نسجها بوعيٍ جديد. أن تُحوّل الموقف العابر إلى منعطفٍ راقٍ في ثقافة المؤسسة.
أن تُدرك أن النظام – مهما بلغت دقّته – لا ينهض إلا حين تلتقي النية الصادقة بالإعداد الجاد. وصدق من قال: “من أراد أن يُصلح نظامًا، فليبدأ بإصلاح الفهم الذي يُديره.” تلك هي القصة التي لا تُروى عن الاجتماعات، بل تُحفر في ذاكرة المؤسسات: أن ميلًا واحدًا، إذا كُتب بوعي، قد يُعيد تعريف القيادة كلها.