|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي
للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال
مسامعنا تتذوق أحيانًا أصوات العالم، وأعيننا تلمس صور الحياة اليومية، لكن قلوبنا قد تغفل عن أعظم إحسان يُقدّم للإنسان… إحسان الله، الذي لا يمكن لعقل أو لغة أن تحيط به. إنه إحسان يتجلى في كل نفس نتنفسه، وفي كل نبضة قلب، وفي كل شعاع شمس يلامس وجوهنا. إحسان الله للإنسان ليس مجرد رزق مادي أو نعمة محسوسة، بل هو حضن وجودي متكامل، يروي النفوس ويرقّق القلوب ويزين الروح.
تأملوا قليلًا،، في تفاصيل حياتنا اليومية: استيقاظنا كل صباح بأعين ترى، وأيدي تلمس، وأقدام تمشي… كل هذا إحسان من الله. قال تعالى:
“وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ” [إبراهيم: 7] الزيادة هنا ليست فقط في المال أو الجاه، بل في الرضا، في الطمأنينة، في السكينة التي تغمر قلب الإنسان حين يعي أن كل شيء حوله بفضل الله وإحسانه.
إحسان الله في الخلق والرزق
أعظم إحسان هو أن خلقنا من لا شيء، ووهبنا الحياة بين ثنايا الأرض والسماء، وجعل لكل شيء سببًا ومعنى. ابن القيم رحمه الله يقول:
“العقل نعمة لا يدرك قدرها إلا من فقدها.” والحق أن العقل والجسد والصحة والأقدام التي تمشي والأيدي التي تعمل، كل ذلك من إحسان الله الخفي الذي لا يُحصى. ليس فقط خلقنا، بل رزقنا بكل ما نحتاج، وأتاح لنا الأسباب، وسخّر لنا الكون بما فيه من نعم. الشمس التي تشرق بلا تعب، المطر الذي يروي الأرض بلا حساب، الهواء الذي نتنفسه بلا مقابل… كل ذلك إحسان الله الذي لا يعلمه إلا من تأمل وأيقن.
إحسان الله في الهداية والتوجيه
لكن إحسان الله يتجاوز ما نراه بالعين، إلى ما يغمر قلوبنا من هداية ونور. فالإنسان بلا توجيه كالسفينة في بحر هائج بلا بوصلة. الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وفتح الآيات، ليهدي الإنسان إلى الطريق القويم، ويزيل عنه الضلال. يقول ابن عطاء الله السكندري: “من عرف الله في كل شيء، لم يضلّه شيء.”هذا إحسان لا يراه كثير من الناس، لكنه يربط حياتنا بالمعنى والغاية، يمنحنا طمأنينة وسط الفوضى، ويعلّمنا كيف نعيش مع الخير والشر، مع الفرح والحزن، في توازن ووعي داخلي.
إحسان الله في التيسير والفرج
كم من مرة شعرت بليلة مظلمة في حياتك، وفجأة انفتح باب لم تتوقعه؟ هذا إحسان الله، تيسير الأمور رغم العوائق، وفتح الأبواب المغلقة رغم المستحيل. يقول الإمام الغزالي:“الحياة كلها معجزات صغيرة إذا تأملت فيها، وكلها هبات من الرحمن.” ليس فقط في الرزق المادي، بل في قلب الإنسان، في صحته النفسية، في لقاء صديق يفرج كربة، أو كلمة طيبة تكسر جدار همّ ثقيل. الله يخفف عنا ما لا نراه، ويمنحنا الفرج بطرق قد لا ندركها، وهذا إحسان يذيب القلوب، ويرقّق المشاعر.
إحسان الله في الغفران والرحمة
وأعظم إحسان يبقى في الغفران والرحمة. مهما قصّر الإنسان، ومهما أخطأ، فإن الله لا يتركه بلا عطف ورحمة. يقول الله تعالى:“وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ” [الأعراف: 156]
الرحمة الإلهية لا تقاس بالخطأ أو الصواب، بل بالإحسان الذي يمنح الإنسان فرصة جديدة دائماً. كل نفس تُغفر لها، كل دمعة يُمسح عنها أثرها، كل عذر يُقبل… هذا إحسان يبقى في القلب مثل النور الذي لا يخبو، ويغسل النفوس من كل ما يشوبها من هموم وغفلات.
إحسان الله في السكينة والرضا
أكثر ما يذهل القلب،، هو إحسان الله في السكينة والرضا. الإنسان قد يمتلك المال والجاه، لكنه بلا طمأنينة كأنه يملك كل شيء ولا يملك شيئًا. لكن من عرف الله، وأحسن الظن به، عاش حياة مطمئنة.يقول ابن القيم:“راحة القلب لا تأتي إلا بمعرفة الله، ومن عرف الله عرف الدنيا حق معرفتها.”
فالطمأنينة، والرضا، والسكينة الداخلية كلها من إحسان الله الذي يعانق قلب الإنسان بلا قيود، ويمنحه راحةً لا يستطيع أي شيء في الدنيا أن يعطيها.
الإحسان لله سبب تيسير الأحوال
الأمر الأعظم، حبيبي، أن كل إحسان يقدمه الإنسان لله، سواء بالعبادة أو بالخلق أو بالكلمة الطيبة، يعود عليه باليسر والفرج. حين يسعى الإنسان في خدمة الآخرين، في مد يد المساعدة، في قول كلمة طيبة، في حفظ الحقوق، في صلة الرحم، كل هذا إحسان لله يعود عليه بالنور الداخلي، وببركة تيسر أموره، ويزيده رضا وقربًا من خالقه.قالت فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها:“ما من شيء أعظم للإنسان من أن يكون سبب خير للناس.”فالإحسان لله هو جسر يربط الإنسان بالخالق، ويزين حياته، ويجعل كل أمر عسير يسهل، وكل همّ يخفّ، وكل روح تزداد صفاء
الدعوة للحياة بالإحسان
إحسان الله للإنسان ليس حدثًا عابرًا، بل هو حياة متكاملة، ينعكس في كل فعل، وفي كل شعور، وفي كل موقف. ومن عرفه، عرف كيف يكون الاحترام، وكيف يكون الشكر، وكيف يكون الحب للخلق ابتغاء رضا الخالق.
فلنحمل الإحسان في قلوبنا، ولنجعل كل عمل نقوم به رسالة شكر لله على فضله وكرمه، ولنسعى لتيسير أمورنا وأمور من حولنا، ونعطي بلا حساب، ونحب بلا شروط، ونغفر بلا حدود… لأن كل هذا عطاء يعكس إحسان الله في حياتنا، ويجعل النفوس تمطر رحمة ورضا. “الحياة قصيرة،والرحمة واسعة، والإحسان لله طريقنا إلى النور الأبدي.” اللهم يا واسع الفضل والرحمة، يا من أحسنت إلينا قبل أن نقدر على الإحسان، اجعل إحسانك يغمر قلوبنا، ويهدي خطانا، وينير دروبنا، وييسر أمورنا كما تسرّ لنا أرواحنا. اللهم اجعل كل فعل صالح نقوم به سبب رضاك، وكل كلمة طيبة نقولها سبب بركتك، واغمرنا من فضلك وكرمك، واملأ حياتنا وسائر أيامنا بالسكينة والرضا، كما ملأت قلوبنا بحبك ونعمتك. اللهم ارزقنا أن نرى الخير في كل شيء، وأن نعيش بالإحسان الذي يليق بفضلك وعظمتك، واجعلنا ممن تذوب قلوبهم بحبك، وترقق مشاعرهم بذكرك، وتزين نفوسهم بذكرك ورضاك. آمين يا أرحم الراحمين